لبنان المنسيّ دوليًّا والمتناحر محليًّا

في كتابه الأخير الحامل عنوان “Leadership” لم يذكر وزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر لُبنان سوى مرّة واحدة، ليقول إن الملك حسين طرد الفلسطينيين من الاردن إليه بعد حربه ضدهم. بينما أستفاض الدبلوماسيّ من فوق سنواته التسعين، بتعداد صفات الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وفي مقدّمها الدهاء والصبر والوصول إلى  حافة الهاوية ثم القفز من فوق الحافة لإدراكه أنّ ثمة شجرة قد يتعلّق بها.

حفِلَت المذكّرات السابقة لصاحبة دبلوماسيّة “الخطوة خطوة” كذلك، بشرح الاتفاق الذي صاغه مع الأسد لدخول الجيش السوري إلى لُبنان (بغطاءٍ أميركيٍ كامل وشروط إسرائيلية) مُتهّمًا قائد الحركة الوطنيّة الشهيد كمال جنبلاط بالتخريب، ورافعًا تمامًا أي غطاء أميركي عنه، ممّا سهّل بطبيعة الحال اغتياله.

وفي كتاب السيّدة صونيا فرنجيّة ابنة الرئيس الراحل سليمان فرنجيّة الحامل عنوان ” وطني دائمًا على حقّ”، نجدُ الرواية الكاملة للعرض الذي حمله السفير الأميركي دين بارون مبعوث كيسنجر آنذاك الى لُبنان، بوضعِ وسائلَ نقلٍ بتصرّف المسيحيّين اللُبنانيّين للهجرة، ما دفع فرنجيّة للردّ بغضب والضرب على الطاولة.

ربما بعد أن انتهى دورُ لُبنان المصرفيّ، والعلميّ، والاعلاميّ، والسياحيّ، والخدماتيّ، والطبيّ، أُطفأت المصابيح، وما عاد لُبنان يهمّ أحدًا

حصلَ ذلك بعد تكليفٍ عربيٍّ للُبنان بحملِ ثقلِ العمل الفدائي الفلسطينيّ عبر اتفاق القاهرة عام 1969 في عهد الرئيس الراحل شارل حلو، ثمّ بعدَ تحويل وطن الأرز إلى لعبة شطرنج، عليها بيادقُ كثيرة لُبنانيّة وفلسطينيّة، وحولها أربعةُ لاعبين، هم كينسجر، وحافظ الأسد، وأنور السادات، وإسرائيل. وخلفهم يقفُ لاعبون ثانويون، لا داعي لذكرهم، لكثرتهم، وقلة حيلتهم، وجملةِ مصائبهم، على لُبنان، مباشرة أو عبرَ أزلمهم وعبيدهم.

 كان مشروعُ كيسنجر الذي كشفه صراحة في مذكّراته السابقة، ذا أربعة أهداف، نجحت جميعُها، وهي : دفعُ أنور السادات الى توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، ومنع المدّ اليساريّ السوفياتيّ من السيطرة على لُبنان، وتحييد سوريا بانتظار اتفاقها مع إسرائيل، والحؤول دون تمكين منظمة التحرير من ربح أيّ حرب أو الاشتراك في أيّ مفاوضات وضربها وسحب سلاحها، دون إغفال طبعًا الهدف التفاوضيّ الأردني.

معظم الانهيارات التي شهدها لُبنان في المرحلة التي سبقت وأعقبت اتفاق كامب دافيد (بما فيها الاجتياح الإسرائيلي عام 1982)، كان لأجل هذا الاتفاق. ومعظمُ التقارب السوريّ-الأميركيّ آنذاك سمح بتعزيز دورِ سوريا في لُبنان والمنطقة، وهو ما لم يفهمه ليس فقط بيادقُ لُبنان المختلفة، وإنّما أيضًا السوفيات الذين شكّكوا بنوايا الأسد، خصوصًا حين ضرب اليسار اللبنانيّ، تحت شعار حماية المسيحيّين، وعدم رميهم في أحضان إسرائيل.

 

سؤال للبنان المهموم

السؤال اليوم اذًا وبناءً على التاريخ المشؤوم لساسة لبنان المهموم، هو حول مَن يتفاوض مع مَن في الخارج عليه، وليس لأجله؟  

لا شكّ في أنّ حزب الله صار في الذهن الأطلسيّ في الموقع نفسه الذي كان لمنظمة التحرير. أيّ أنّه قوةٌ عسكريّة فائضة، ذاتُ دورٍ سياسيٍ مرفوض، ولا بُدّ بالتالي من سحقِه (كما ورد حرفيّا في مذكّرات جاك شيراك وطوني بلير وجورج دبليو بوش) لكسر ” الهلال الشيعيّ”، أو ترويضِه تفاوضيًّا (وهو ما تحاوله فرنسا بلا نجاحٍ يُذكر، أو ما حاولته بعضُ العروض الأميركيّة)،أو عزلِه ومعاقبته ووضعه على لوائح الإرهاب.

وحيث أنّ كلّ هذا لم ينفع في كسر فائض القوة وفائض الدور السياسيّ، بالرغم من امتعاض أكثر من طرف، حتّى داخل البيئة الشيعيّة، فلا بأسَ أن يُترك لُبنانُ كلّه على قارعات الأمم بانتظار مَن يتفاوض عليه وليس لأجله. ولا بأس تاليًا في خضّات اقتصادية كُبرى، وتلاعُبًا بالدولار، ومنعًا لاتفاقات مع صندوق النقد، واهتزازاتٍ قضائيّة، وصولاً رُبما الى اضطراباتٍ أمنيّة على أسس مذهبيّة. ففي لُبنان، من مخزون الحقد المذهبيّ ما يُسهّل هذه المُهمة، ويُسرّع فعاليتَها.

في كتابه  المهمّ والشيّق” تسويقُ الحرب” ،يقول الكاتب الفرنسي المعروف بيار كونيسّا، إنَّ الدول الغربيّة الكُبرى ما عادت بحاجة اليوم إلى الانخراط مباشرة في الحروب، فهي تبنّت استراتيجيّة ” صفر قتيل”، ولذلك نُلاحظ أنّه بعد أن كان النشاط العسكري الغربّي منذ العام 1991 مثيرًا فعلاً للدهشة، حيثُ خيضت اربعُ حروبٍ أو علمياتِ تدخّل في الشرق الأوسط وحده (الكويت، العراق، سوريا، ليبيا) وفي أفغانستان، ونحو ثلاثين عملية  أو حرب في افريقيا، وحيث كانت النتيجة كوارثية: دولٌ دُمّرت، مناطقُ واسعة بقيت بلا دولة، عددٌ كبيرٌ من القتلى والجرحى، وأعدادٌ أكبر من اللاجئين والنازحين، ها هي البروجكتورات (المصابيح الكُبرى)  تُطفأ في وسائل الإعلام، وتنتفي مصلحة الأطراف الفاعلة، فمَن يهتم اليوم مثلاً لأمر الصومال والكونغو وكردستان ونيجيريا ودرافور”؟.

ربما بعد أن انتهى دورُ لُبنان المصرفيّ، والعلميّ، والاعلاميّ، والسياحيّ، والخدماتيّ، والطبيّ، أُطفأت المصابيح، وما عاد لُبنان يهمّ أحدًا. فلا بأس أن يتقاتل الساسةُ اللُبنانيون الى ما شاء الله فوق جثّة الوطن، غيرَ خائفين على مواقعهم لأنَّ الناس تُعيد انتخابَهم بالرغم من القهر والجوع والمرض والافلاس، وغيرَ ابهين بالدولة، لأنَّ دمارَها هو مبرّرُ وجودِهم….

ماذا يضيرُهم بالتالي من انتظارِ كيسنجر آخر، وأسدٍ آخر، يرسمان لهم ما يجب أن يفعلوه كي يبقوا بيادقَ على رقعةِ شطرنج، يتبادلون التهديد والوعيد، ويتصايحون فوق مزبلة القضايا: أنا عنترة.

 

ماذا ينتظرون؟

لو نجحت الوساطات الجديدة بين إيران والسعودية التي تعمل عليها سلطنة عُمان والعراق، قد يأتي بعضُ الفرج من هناك وتنصاعُ البيادق. ولو عُقد المؤتمر الخماسي الدوليّ العربيّ في شهر شباط/ فبراير حول لُبنان، قد يأتي بعضُ الضغط من هناك، وتخضعُ البيادق، خصوصًا أن قطر المشاركة كما السعودية ومصر في المؤتمر، بدأت توسّع حضورها في لُبنان، الان عبر الغاز، ولاحقًا سياسيًّا، نظرًا لعلاقاتها الجيدة مع إيران.  هل سترضى الرياض بدورٍ قطريٍّ أكبر؟ لا ندري.

إقرأ أيضاً: المسيحيّ اللُبنانيّ قلقٌ، احذروا الآتي 

أمّأ أحفاد كيسنجر ولينين الغارقون بشطرنج أخرى، اسمها أوكرانيا، فإنهم لن ينظروا إلى لُبنان الاّ من زاوية جمع بيادق في حربهما التي تقارب حدود الحرب العالميّة الثالثة. وما لم ينتبه ساسةُ لُبنان إلى كلّ ذلك (وهم قلّما ينتبهون، أو يفهمون اللعبة الدوليّة) فإن نُذُرَ الخراب مستمرّة.

 

*نقلا عن موقع لعبة الأمم

إقرأ أيضاً

نقابة المهندسين: باسيل فاز.. جعجع انتصر.. المسلمون حسموا

انتهت انتخابات نقابة المهندسين. فاز المهندس العوني فادي حنّا بمركز نقيب المهندسين، وفازت لائحته التي يدعمها التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي وجمعية المشاريع. لكنّ المعركة…

العرب لا يثقون بأميركا… وينتظرون “حلّ الدولتين”؟

كان مجال اهتمامنا في ترقّب ضربة إيران ضدّ إسرائيل، هو القدرة والضرر الذي تُحدثه. بيد أنّ الأميركيين والأوروبيين، الذين كانوا يعرفون حدود القوّة الإيرانية المحدودة،…

الحرب قد تدوم سنةً والفوضى الإقليميّة والترانسفير قادمان؟

المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران فصل من فصول الحرب الإقليمية الدائرة انطلاقاً من غزة، التي تنتظر بدورها مصير رفح… ويتوقّع بعض المتشائمين أن تستمرّ الحرب…

إردوغان يحمل ملفّ غزّة إلى البيت الأبيض: “الحركة” بلا سلاحها

كان غريباً انكفاء تركيا النسبي عن لعب دور نشط في المرحلة التي تلت مباشرة عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 أكتوبر (تشرين…