روسيا والصين.. شـراكـة بـ”حـدود”؟

قبيل أن تشنّ روسيا حربها على أوكرانيا في 24 شباط من العام الماضي وتهجم على البلد الجار شرقاً من لوغانسك ودونيتسك، وجنوباً من شبه جزيرة القرم، وشمالاً من حدود بيلاروسيا، تقصّد الرئيس فلاديمير بوتين زيارة الصين مستغلّاً بدء الألعاب الأولمبية الشتوية لعقد مباحثات مطوّلة مع الرئيس الصيني شي جينبينغ.

في ختام المباحثات، صرّح بوتين بأنّ البلدين اتّفقا على “شراكة بلا حدود” لمواجهة الخطوات الغربية، ولا سيّما منها التدابير الأميركية، والوقوف معاً بوجهها كشريكين لهما مصالح مشتركة.

لكن بعد أوّل طلقة مدفعية، وانطلاق الدواليب المسنّنة للمدرّعات والمصفّحات الروسية، وغارات الطائرات على أكبر المدن الأوكرانية، تبيّن أنّ أوجه الشراكة، التي تمنّى بوتين أن تكون بـ”لا حدود”، لها على الأرض واقع مغاير ومختلف. 

على العكس ممّا فعلته واشنطن مع إيران، لم تفرض إدارة بايدن أيّ عقوبات على الشركات والهيئات الصينية التي تتحايل على العقوبات من خلال تهريب النفط الروسي

خسارة روسيا تلجم الصين والهند

منذ لحظة اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، تأمّلت بكين مليّاً في مآلات هذه الحرب، واستخلصت منها العبر والدروس، وما يمكن أن يحصل لها في حال اجتازت المضيق لاحتلال جزيرة تايوان وتحقيق شعار “الصين واحدة”. وتوقّفت ومعها الهند، وهما أكبر بلدين مستوردين للأسلحة الروسية، أمام صور المدرّعات والشاحنات الروسية المدمّرة على جوانب الطرقات في أوكرانيا بعدما خسرت موسكو 1,200 دبابة وحوالي 2,500 مدرّعة وأكثر من 3,000 شاحنة نقل، وتعثّر عمليّات الجيش الروسي الحربية طوال 11 شهراً، وعدم تمكّنه من احتلال باخموت، واستنزافه في المدينة الصغيرة المقاوِمة سوليدار، وهو ما أجبره على الاعتراف علناً باتّكاله على ميليشيا فاغنر بعدما امتنع طويلاً عن الاعتراف بأدوارها في إفريقيا الوسطى ومالي وليبيا وسوريا، فثار لدى بكين ونيودلهي التساؤل المنطقي عن مدى أهمّية السلاح الروسي.

اختارت بكين عدم إعلان تأييدها للحرب الروسية على أوكرانيا والتريّث في اتّخاذ موقف يُفهم منه دعمها لبوتين في حربه، فأتت أشكال تصويتها في مجلس الأمن وفي الجمعية العامّة للأمم المتحدة وفي اللجان الأممية متنوّعة ومتميّزة عمّا تشتهيه موسكو. ونظراً إلى هذا التمايز، وعلى الرغم من زيارة رئيسة الكونغرس آنذاك نانسي بيلوسي ووفود من الكونغرس جزيرة تايوان، والموافقة السريعة على بيع الجزيرة أسلحة متطوّرة بالمليارات، وإبحار حاملات الطائرات الأميركية المدعومة بالسفن والمدمّرات في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، أعلن الرئيس الاميركي جو بايدن بعد لقاء شي جينبينغ في بالي على هامش مؤتمر الكبار العشرين استمرار واشنطن تأييد مبدأ “الصين واحدة”. ولتخفيف حدّة التوتّر قرّر إيفاد وزير خارجيته أنتوني بلينكن إلى بكين للتخفيف من الأجواء المشحونة، وللاستمرار بإدارة التنافس بين البلدين بشكل يمنع الصدام بينهما.

لقد تمنّعت الصين عن أمرين على الرغم من إلحاح موسكو الشديد:

ـ أوّلاً، امتنعت عن إعلان تأييدها للحرب على أوكرانيا واستمرّت بتأكيدها ضرورة إيجاد الحلول الدبلوماسية لا العسكرية.

ـ ثانياً، وبعكس ما فعلته إيران، أحجمت الصين عن تلبية طلبات روسيا مدّها بالأسلحة والذخائر والرقائق الإلكترونية المستخدمة في صناعة الأسلحة، ورفضت أيضاً أن تصدّر إليها تكنولوجيا حديثة يحتاج إليها الجيش الروسي.

ليست شراكة بـ”لا حدود” مع الصين كما حاول الترويج لها بوتين، بل هي بوضوح شراكة بـ”حدود” فرضها التنّين الصيني

الصين تتواطأ مع روسيا ولا تشاركها

تفعيلاً “للشراكة بحدود” المختلفة عن تلك التي أعلن بوتين أنّها “بلا حدود”، وبسبب وجود مصلحة اقتصادية عميقة ستحقّق لها عائدات ماليّة ضخمة، فقد أكثرت الصين من مساعدة موسكو عبر شراء النفط الروسي متحايلة على العقوبات المفروضة على روسيا، سواء من الدول السبع أو من الولايات المتحدة وأوروبا الموحّدة. ولتقويض العقوبات والاستفادة من النفط الروسي المبيع بأسعار أرخص من سعر الأسواق، عمدت 6 شركات صينية تملك ناقلات نفط عملاقة إلى تحميل ملايين براميل النفط في مرفأ كوزيمو في مدينة ناخودكا شرق روسيا على الضفة الغربية من المحيط الهادئ، وتصديرها إلى الهند والفليبين وإندونيسيا، محقّقة بذلك أرباحاً طائلة.

وبعدما امتنعت كلّ من بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا عن الموافقة على تحديد سقف سعر برميل النفط الروسي المنقول بحراً بأكثر من 30 دولاراً للبرميل الواحد نظراً إلى كلفته الواقعية، ضغطت واشنطن على دول البلطيق هذه لتمرير قرار الوحدة الأوروبية بتحديده بـ60 دولاراً بدلاً من 30، خوفاً من اهتزاز العرض والطلب العالميَّين وأثرهما على التضخّم الذي تعاني منه الولايات المتحدة. ولذلك أيضاً سهّلت واشنطن تحايل الصين على العقوبات.

وعلى العكس ممّا فعلته واشنطن مع إيران، لم تفرض إدارة بايدن أيّ عقوبات على الشركات والهيئات الصينية التي تتحايل على العقوبات من خلال تهريب النفط الروسي. وبعدما سمحت الإدارة الديمقراطية قبل الانتخابات النصفية الأخيرة لفنزويلا بإعادة تصدير نفطها، ها هي تلتزم الصمت عن “أسطول الظل” الروسي بعدما باعت موسكو ناقلات عملاقة واشترت أكثر من مئة باخرة متوسّطة وصغيرة الحجم مسجَّلة تحت علم ليبيريا وباناما وجزر الكاريبي لنقل نفطها وتهريبه.

إقرأ أيضاً: روسيا والصين في العقل الأميركي

من المسلّم به أنّه على الرغم من التحايل على العقوبات، والالتفاف على شرط تحديد سقف السعر الأعلى لبرميل النفط الروسي، فإنّ العائدات الروسية (الأداة الرئيسية لتمويل الحرب على أوكرانيا) آخذة بالانخفاض، وبدأت الفجوات تظهر في الموازنة الروسية. وذلك لعدّة أسباب، منها أنّ الصين تختار أيّ المجالات تتعاون فيها مع موسكو وفقاً لنوعية الملفّ وتبعاً لمصالحها الاقتصادية والماليّة. ولأنّ الصين مثلها مثل واشنطن في المواضيع التي تصل فيها الأمور إلى حدود اللارجعة فهي تحاذر تخطّي الخطّ الأحمر وتلتزم التيقّظ وتفعيل الحيطة والحذر.

ليست شراكة بـ”لا حدود” مع الصين كما حاول الترويج لها بوتين، بل هي بوضوح شراكة بـ”حدود” فرضها التنّين الصيني.

 

*كاتب لبناني مقيم في دبي

لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@

 

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…