لماذا سينتخِب بايدن رئيساً للبنان؟

كان ذلك قبل نحو عشرين عاماً. بعد أحداث 11 أيلول ووصول موّال المحافظين الجدد إلى مسامعنا، وبداية نسج أوهام التحالف التحرّري الديمقراطي العظيم بين بيروت وواشنطن… كان يومئذٍ في هذه البلاد دبلوماسي غربي صادق صريح، من عملة نادرة جداً، إن لم تكن قد سُحبت من التداول. دُعي في حمأة تلك الظروف إلى لقاء مع مؤسّسة بحثيّة، للكلام عن السياسة الخارجية الأميركية، والأهمّ، موقع لبنان فيها.

جاء الرجل بوجه كئيب ودأب طوال ساعتين على تحطيم خرافات الحاضرين وأساطير ثقافتهم الفطرية، عن مركزية بلدهم في سياسات الكون ومحوريّته في حركة التاريخ والبشرية: “صدّقوني إن قلت لكم إنّ من الصعب جداً أن يكون هناك في البيت الأبيض من يعرف أين يقع بلدكم على الخارطة. أو حتى في أيّ قارّة من هذا الكوكب تعيشون”. قبل أن ينتهي إلى خلاصات كلامه: “للسياسة الخارجية الأميركية ثلاث ثوابت. هي بالفعل والواقع ثلاث أولويّات هرمية متراتبة: أوّلها أمن الأرض الأميركية وسلامتها. ثانيها خير ورفاه (Welfare and Well-being) المواطن الأميركي. وثالثاً وأخيراً الديمقراطية والحرّيات العامة وحقوق الإنسان في العالم…”.

كيف ومتى ستفرض هذه الثلاثية انتخاب رئيس جديد للبنان؟

سؤال بسيط وسهل الإجابة.

                                ***************************************

بات من شبه المستحيل الرهان على طبخة داخلية تُنضج رئيساً جديداً للجمهورية اللبنانية. وصار التطلّع محتوماً نحو الخارج. والخارج بالنسبة إلى وطن القناصل الذي نحيا فيه، هو أوّلاً واشنطن. منها تنطلق الإشارة لأيّ مسعى دولي تجاه بيروت. قد تمرّ في محطّات وعواصم. لكنّ بدايتها من هناك.

 حين لا يكون هناك أيّ خطر على أمن أميركا، يصير خير المواطن الأميركي ورفاهه أولويّة سياستها الخارجية

وهناك تقوم قاعدة يخطئ كلّ إنسان يجهلها على هذه الأرض. وإذا كان مسؤولاً عن جماعة أو بلد، يصير خطأه كارثة. قاعدة من النوع الكثير والخطير الذي شهده تاريخنا المعاصر. قاعدة تقول إنّ “كلّ السياسات الأميركية، هي سياسات محلّية”. أو بمعنى ما، هي سياسات بلديّة داخلية لا غير.

أولويّات أميركا الدائمة

في هذا السياق تماماً تُفهم الثلاثية السابقة:

1- الأولويّة الأولى والمطلقة هي لأمن “أرض الوطن” الأميركي. ليست صدفةً ولا تفصيلاً أنّ أميركا أطلقت كلّ حروبها نتيجة اعتداء ما على أرضها. أو على الأقلّ كانت دوماً بحاجة إلى تلك الذريعة، لتبرّر لذاتها وناسها ومؤسّساتها، خوضها تلك الحروب.

دخول الحرب الأولى انتظر غرق أكثر من مئة أميركي على متن باخرة “لوسيتانيا”. ودخول الحرب الثانية انتظر الاعتداء على بيرل هاربور. ودخول الحرب الفيتنامية احتاج إلى كلّ نظريات إدغار هوفر حول الخطر الإرهابي الشيوعي على قلب أميركا… وصولاً طبعاً إلى سقوط برجَيْ نيويورك، الذي كان مظلّة لإسقاط كابول وبغداد…

2- حين لا يكون هناك أيّ خطر على أمن أميركا، يصير خير المواطن الأميركي ورفاهه أولويّة سياستها الخارجية. كلّ سياسات النفوذ والاحتواء والجيوستراتيجية وحروب الأرض والنجوم وأيديولوجيات فوكوياما وهانتنغتون وفلسفة جون لوك حول إعلان الاستقلال… تصير كلّها مجرّد أدوات حسابية بسيطة لتصحيح الميزان التجاري الأميركي لا غير…

3- وفقط متى تحقّق ذلك، وفي ما بقي من وقت وجهد، يمكن البحث في نشر قيم الديمقراطية في العالم والدفاع عن الحرّيات العامة وحقوق الإنسان. وحتماً، بما يخدم الأولويّتين السابقتين، الأمن والرفاه الأميركيَّين…

لمن يهوى تمارين التطبيقات التاريخية العمليّة، يمكن له أن يقوم بهذا الامتحان حيال المحطات الثلاث من التدخّلات الأميركية الفعليّة في بيروت: 1958، و1982، وأخيراً مع مغامرة قانون محاسبة سوريا والقرار 1559 وثورة الأرز بين 2004 و2006.

اليوم لا شيء من كلّ ذلك يزن في الحسابات الأميركية تجاه لبنان. ولذا علينا أن ننتظر معطىً آخر في حسابات الداخل الأميركي.

فُتح الباب عريضاً أمام الفريق الديمقراطي للأمل مجدّداً بولاية ثانية، سواء أكان مع بايدن أو مع حصان آخر أقلّ كهولة

صراعات الداخل الأميركيّ

في هذا الداخل يبرز ذلك الصراع الشرس على السلطة. لا بين الحزبين أو الشخصين أو النهجين من السياسات المحلية وحسب، بل هناك صراع شبه جذري، بين الرئيس جو بايدن وتقف خلفه بعض مؤسّسة الحزب الديمقراطي المتحوّل يساراً، بشكل متفلّت وغير مسبوق أو منضبط أحياناً، وبين سلفه دونالد ترامب وتقف خلفه استفاقة تيار الواسب الأبيض البروتستانتي (WASP) دفاعاً عن أميركا سابقة.

في هذا الصراع حقّق التيار الأول في الأسابيع الماضية نقاطاً بارزة. فهو تخطّى أوّلاً الانتخابات الكونغرسيّة النصفية. وهي عقبة كأداء تلاحق كلّ عهد رئاسي أميركي تقليدياً وتاريخياً. فتقضم من رصيده وتُطلق مسار انحداره وتبعث القلق حيال حظوظ التجديد له بعد سنتين. تخطّاها الديمقراطيون بأقلّ خسارة. لا بل ببعض نجاحات. ثمّ انتهى ذلك الاستحقاق إلى بروز تفسّخات لافتة في معسكر الخصم الترامبيّ تحديداً:

– خسارة مجلس الشيوخ مجدّداً.

– فوزٌ بطعم الخسارة المتدحرجة في مجلس النواب، خصوصاً بعد جرصة انتخاب رئيسه، وخسارة كثيرين ممّن دعمهم مجنون ميلانيا وأخواتها ومسحور الصهر و”بيزنسه”.

– ثمّ انهيار قاعدة الذين خاضوا الاستحقاق على أساس رفض التسليم بنتائج انتخابات 2020، وصولاً إلى بروز منافس جدّي لترامب داخل معسكره: رون دو سانتيس.

– سارع ترامب إلى لعبة شيطنته مبكراً، بإطلاق هوايته الغوغائية الفضلى ضدّه، عبر وصمات الاغتيال اللفظي، وتسميته “دو سانكتيمونيوس”…

تقدّم الديمقراطيّين

هكذا فُتح الباب عريضاً أمام الفريق الديمقراطي للأمل مجدّداً بولاية ثانية، سواء أكان مع بايدن أو مع حصان آخر أقلّ كهولة. والبناء على هذا يكون من خلال وجود أمل بالتجديد، الأمر الذي يعني بشكل أساسي الوصول إلى مشارف سنة الانتخابات في ظلّ وضع معيشي أميركي يبعث بشعور التفاؤل والاستمرار، لا القلق والتغيير. وهو ما تتحكّم فيه سلسلة من الأرقام الجافّة. ذلك أنّ أرقام الاستطلاعات الانتخابية هناك ترتبط بشكل ثابت بسلسلة موازية من الأرقام المتلازمة: رقم نسبة البطالة، رقم نسبة التضخّم، رقم العجز والدين… هي بلاد تعشق الأرقام ونسبها. من نسبيّة آينشتاين إلى نسب المراهنات الرياضية وأرقام سلع الأوراق المالية وبورصات منتجات مادوف وعصابات وول ستريت.

طبخة رئاسية داخلية، تُنضجها طبقة زبائنية أهدرت أكثر من عشرين عاماً لتنتج ظلاماً لأكثر من عشرين ساعة، لهي هلوسة أشدّ ووهم أكبر

لكنّ المهمّ أنّ رقماً جديداً سيُضاف إلى وجدان الناخب الأميركي في الاستحقاق الانتخابي المقبل. إنّه هذا الرقم المعلّق على لافتة كبيرة مضاءة ليل نهار على آلاف محطات الوقود في تلك البلاد الشاسعة. إنّه سعر غالون البنزين. كلّما ارتفع هذا الرقم فوق العدد 4، انخفضت أرقام الديمقراطيين. وكلّما انخفض تحت ذلك العدد، تقلّص عدد السنوات الفاصلة عن حلم الديمقراطية أوكاسيو كورتيز في أن تصير أوّل سيّدة للبيت الأبيض ربّما…

وعلى هذا الرقم قد يعلّق بايدن نفسه حسابات إعلانه خوض معركة التجديد. وطبعاً حسابات الفوز والخسارة. وأوّل المشوار سيكون في الانتخابات التمهيدية داخل الحزبين.

صحيح أنّ المواعيد الرسمية لها ستنتظر بدايات العام المقبل. لكنّ بوادرها قد بدأت الآن. حتى إنّ حملة ترامب ألمحت إلى أنّ يوم 28 كانون الثاني الجاري، قد يكون موعد إعلان دخوله السباق الجمهوري مجدّداً. وهو ما قد يفرض على بايدن التعامل مع الروزنامة الانتخابية وفق الإيقاع نفسه. وقد يصير مدفوعاً إلى تبكير وتكثيف أكثر، خصوصاً مع اندلاع قضية الوثائق الفدرالية الرسمية والسرّية، التي وُجدت متروكة في أحد مكاتبه منذ أعوام نيابته لباراك أوباما.

أين موقع لبنان إذاً؟

إذا صحّت الحسابات، لجهة انطلاق السباق الرئاسي الأميركي التمهيدي، ولو في خطوات التحمية الخطابية، خلال أسابيع، والقتال في سياقه على سعر غالون البنزين، فسيكون عندئذٍ على بايدن وإدارته العمل على ثلاث نقاط: حرب أوكرانيا، العلاقة مع السعودية والخليج، وأخيراً إيران بامتدادها الغازيّ الحيويّ والفعليّ، من بندر عباس حتى حقل قانا المزعوم – الموعود في جنوب لبنان. والمؤشّرات الأولى للعمل الأميركي على تلك النقاط الثلاث قد بدأت تظهر على الرغم من كلّ الأجواء المغايرة.

… بلا كثير من الشرح، في هذا المسار، قد تكون فرصة لتقاطع أميركي روسي سعودي إيراني، أو شيء من حوار على القطعة بين هذا الرباعي. وقد تلوح في ذلك المسار لحظة رئاسية لبنانية. على من ترسو؟ حكماً على الموقع الأكثر توازياً بين الجهات الأربع.

مجرد هلوسة وأوهام؟؟

إقرأ أيضاً: أوروبا – إيران: حان وقت المواجهة؟

الأكيد أنّ الرهان على طبخة رئاسية داخلية، تُنضجها طبقة زبائنية أهدرت أكثر من عشرين عاماً لتنتج ظلاماً لأكثر من عشرين ساعة، لهي هلوسة أشدّ ووهم أكبر. فلننتظر ونرَ. وفي هذه الأثناء، لسياسيّينا أن يملأوا الفراغ بالفراغات المناسبة أو غير المناسبة والأرجح أنّهم يفضلون “غير المناسبة”.

لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…