الشيخ زايد والعروبة الثقافيّة.. أمّ كلثوم في أبوظبي

في بداية عام 2023 أعلنت مجلّة “رولينغ ستون”، أشهر مجلّة فنّية في العالم، اختيار السيّدة أمّ كلثوم من بين أعظم مطربي العالم على مرّ التاريخ.

وقبل أسابيع أُقيمت في القاهرة احتفالية كبرى لمناسبة مرور 50 عاماً على العلاقات المصرية – الإماراتية. وضمن الاحتفالية أقام المنظّمون ندوة وحفلاً مهيباً تحت عنوان “أمّ كلثوم في أبوظبي”.

حضر الحفل عدداً كبيراً من النخبتَيْن المصرية والإماراتية، واستمعتُ إلى قصص مشوّقة عن زيارة أمّ كلثوم لأبوظبي وغنائها في حفلتَيْن رائعتَيْن لا تزالان في ذاكرة الأجيال في دولة الإمارات.

في بداية عام 2023 أعلنت مجلّة “رولينغ ستون”، أشهر مجلّة فنّية في العالم، اختيار السيّدة أمّ كلثوم من بين أعظم مطربي العالم على مرّ التاريخ

عام 1971.. صناعة التاريخ

كان عام 1971 عاماً حاسماً في تاريخ إمارة أبوظبي ودولة الإمارات:

– بذل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في ذلك العام جهداً كبيراً لتكليل جهوده الاتحادية بالنجاح. ويستعرض كتاب “أمّ كلثوم في أبوظبي” يوميّات الشيخ زايد في هذا العام. وهي يوميّات حافلة بالزيارات الدبلوماسية إلى الدول العربية والأجنبية، وبالنشاط السياسي الداخلي، وبالاجتماعات المتواصلة مع حكّام الإمارات إعداداً للحدث الكبير.

– في شهر تشرين الثاني من ذلك العام الحاسم كانت كوكب الشرق السيّدة أمّ كلثوم ضيفة على إمارة أبوظبي، لمناسبة احتفالات عيد جلوس الشيخ زايد. وقد جاء في رسالة شكر وجّهتها السيّدة أمّ كلثوم عبر صحيفة الاتحاد: “.. يزيد من سعادتي أنّني جئت إلى أبوظبي في مناسبة عيد جلوس صاحب العظمة الشيخ زايد، والاستعداد للإعلان عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، التي سوف تضيف إلى الأمّة العربية رصيداً جديداً من القوّة والدعم.. ونسأل الله القدير أن يحقّق لنا العزّة والنصر. أمّ كلثوم”. 

وثيقة الدعوة

نشر كتاب “أمّ كلثوم في أبوظبي” – قام بتقديمه والإشراف عليه الأستاذ محمد المرّ، وشارك فيه الأساتذة ناصر عراق، إلياس سحاب، أحمد إبراهيم، ومصطفى عبد الله بعدد من الدراسات المتميّزة – نصّ الدعوة التي وجّهها الشيخ زايد لأمّ كلثوم. وهي الدعوة التي سلّمها الوزير والشاعر المعروف مانع سعيد العتيبة ومستشار وليّ العهد الأستاذ عبد المنعم الملواني.

وقد جاء في الرسالة – الوثيقة: “حضرة السيّدة الفاضلة كوكب الشرق أمّ كلثوم المحترمة.. بعد التحيّة.. إنّه لمن دواعي سرورنا دعوة سيّدة الغناء العربي الأولى لزيارة أبوظبي، للاطّلاع على معالمها عن كثب ومشاهدة ما حقّقته من إنجازات خلال فترة وجيزة. كما أنّه سيكون مبعث فرح وسرور لنا أن نمتّع الأذن بسماع الصوت الشجيّ والنغم الجميل، آملين أن يُتاح لكم الوقت للقيام بهذه الزيارة. وذلك بمناسبة العيد الوطني لبلادنا، متمنّين موفور الصحّة، سائلين الله أن يوفّقكم ويرعاكم، والسلام عليكم ورحمة الله. زايد بن سلطان آل نهيان.. حاكم أبوظبي”.


4,000 مستمع

كانت المسارح الموجودة في أبوظبي آنذاك هي مسارح دور سينما، وأكبر قاعة سينما لا تتّسع لأكثر من عدّة مئات من المشاهدين، فيما عشّاق أمّ كلثوم بالآلاف.

صدرت الأوامر لوزارة الدفاع ببناء مسرح موقّت في غضون ثلاثة أسابيع، وهو ما حدث بالفعل، إذ أقيم مسرح رائع على أرض نادي الوحدة.

حسب الكتاب.. كانت شعبيّة أمّ كلثوم في الإمارات لا تقلّ عن شعبيّتها في باقي الدول العربية، وكان هناك حشد من المحبّين لها والمستمعين لفنّها.

جاءت أمّ كلثوم في صحبة ثلاث مجموعات: فرقتها الموسيقية، والوفد الصحافي، ووفد العائلة. حضر الحفل ثلاثة أشخاص من عائلة أمّ كلثوم، وعدد كبير من الصحافيين والإعلاميين، كان من بينهم مدير إذاعة صوت العرب سعد زغلول نصار، ورئيسة التلفزيون لاحقاً سامية صادق، ومستشارة الرئيس عدلي منصور لاحقاً سكينة فؤاد. ومن الفرقة الموسيقية المصاحبة حضر أشهر عازف كمان في مصر أحمد الحفناوي وعازف الكمان محمود القصبجي ابن شقيق الموسيقار الكبير محمد القصبجي، وعازف الغيتار الشهير عمر خورشيد.

زيارة قصر المنهل

قدّمت أمّ كلثوم في أبوظبي حفلتين خصصت عائداتهما للمجهود الحربي المصري، وقد غنّت فيهما أعمالها الشهيرة “أغداً ألقاك” و”ودارت الأيام” و”القلب يعشق كلّ جميل”. وحسب الصحافة الإماراتية قام الجمهور بمقاطعتها مرّات عديدة بالتصفيق الحارّ.

استقبل الشيخ زايد أمّ كلثوم في قصر المنهل مدّة ساعتين، وأقامت “الشيخة فاطمة بنت مبارك” مأدبة عشاء تكريماً لكوكب الشرق. وحسب الأرشيف الصحافي الإماراتي، حضرت الحفل مجموعة كبيرة من سيّدات أبوظبي والدول الشقيقة.

إقرأ أيضاً: أمّ كلثوم عقبة في طريق تطوّر الغناء المصريّ!!

العروبة الثقافيّة

كان الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان صاحب مشروع في ما يمكن تسميته “العروبة الثقافية”، إذ كان يؤمن بأنّ الوحدة الثقافية العربية هي الوحدة الواجبة، وهي الطريق الحقيقي إلى مزيد من التضامن العربي.

استضاف الشيخ زايد العديد من النخب العربية، ومنها النخبة المصرية، وكانت أمّ كلثوم والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ محمد متولّي الشعراوي من بين نخبة عريضة أحبّها الشيخ زايد وأحبّته.

لا يزال الشيخ زايد في قلب كلّ عربي، ولا تزال أمّ كلثوم كوكب الشرق الدائم.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…