أكبري: جاسوس اخترق النظام الإيرانيّ طولاً وعرضاً

قد يكون الكشف عن إلقاء وزارة الاستخبارات الإيرانية القبض على “الجاسوس الأكبر” علي رضا أكبري قبل أيام، محطّة مفصليّة في الحرب الاستخباراتية التي يخوضها النظام الإيراني مع أجهزة مخابرات غربية وإقليمية. وهو اضطرّ إلى الاعتراف بالمواقع والمناصب التي عمل فيها أكبري، بعدما أحدثت تسريبات تحدّثت عن اعتقال جاسوس كبير يعمل معاوناً لوزير سابق بلبلةً كبيرةً وفتحت باب التكهّنات حول شخصيّة الوزير والوزارة المستهدَفة. يقول أكبري في الاعترافات، التي سرّبت وزارة الاستخبارات الإيرانية بعضها، إنّه بدأ التواصل مع جهاز الاستخبارات البريطاني MI6 في لقاء دبلوماسي شارك فيه السفير البريطاني في طهران وقام خلاله شخص من مرافقي السفير بوضع بطاقة تعريف شخصية (business card) في جيبه، فكانت فاتحة التواصل بينه وبين ضبّاط بريطانيين عمدوا إلى ملء استمارة شخصية له داخل السفارة وتفاهموا معه على التعاون ومنحه تأشيرة سفر إلى بريطانيا.

إلى ذلك سرّبت الاستخبارات الإيرانية أنّ أكبري، الذي يؤكّد أنّ وضعه الماليّ جيّد، كان قادراً على الحصول على ما يريد ببساطة. وهذا يعني أنّه لم يكن بحاجة إلى التعاون من أجل المال. فما هي دوافع تعامله إذاً؟

لم يُجِب الجهاز الإيراني عن هذا السؤال، إمّا لتغطية الأسباب التي تشكّل فضيحة أو لمحاولة الهروب من الاعتراف بالعجز عن حماية أسرار الدولة والمواقع الحسّاسة الاستراتيجية.

يقول أكبري، حسب تسريبات الجهاز الإيراني، إنّه كان يلتقي في إسبانيا ضبّاط الاستخبارات البريطانية الذين سألوه عن شخصيات مرتبطة بالملف النووي، وبينهم فخري زاده

من هو أكبري؟

تنقّل أكبري في عدد من المواقع المتقدّمة، الحسّاسة والخطيرة، ومنها:

– معاون الشؤون الخارجية لوزارة الدفاع.

– مستشار المجلس الأعلى للأمن القومي.

– مستشار قيادة القوات البحرية.

– مستشار الدفاع والأمن في مركز البحوث التابع لوزارة الدفاع.

–  مسؤول المؤسّسة العسكرية لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 598 لوقف الحرب العراقية الإيرانية.

إذاً كانت كلّ سياسات النظام العسكرية والنووية والدبلوماسية والإقليمية في متناول يد أكبري الذي قام بنقلها إلى الجهاز الاستخباراتي البريطاني. وهو شبيه الأدميرال علي شمخاني الذي يشغل الآن منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي ممثّلاً المرشد الأعلى فيه، ويتولّى مسؤولية الإشراف على المفاوضات النووية والعلاقة مع الحليفين الروسي والصيني، وتنفيذ السياسات الخارجية والاستراتيجية للنظام على الساحتين الإقليمية والدولية. وتتولّى هذه المواقع الإشراف على عمليات التصنيع العسكري التي تتضمّن التصنيع الصاروخي الاستراتيجي.

يقول أكبري، حسب تسريبات الجهاز الإيراني، إنّه كان يلتقي في إسبانيا ضبّاط الاستخبارات البريطانية الذين سألوه عن شخصيات مرتبطة بالملف النووي، وبينهم فخري زاده. وكان متجاوباً معهم وأعطاهم معلومات عنه، إلى جانب ما تستخدم إيران من طرق للالتفاف على العقوبات الاقتصادية.

كشف أكبري أيضاً أنّه تعرّض عام 2019 للاستجواب من الأجهزة الإيرانية بعد شكوك دارت حوله جرّاء النزف في المعلومات السرّية ووصولها إلى أجهزة غربية. وبتوجيه من جهاز MI6  البريطاني تظاهر بتعرّضه لجلطة دماغية، فتوقّف استجوابه، ثمّ عاد إلى ممارسة عمله من جديد.

 

عمّا كشف أكبري؟

أمّا المجالات التي عمل أكبري فيها وزوّد جهاز MI6  بمعلومات عنها فهي التالية:

– المجال النووي: كيف يقوم النظام الإيراني بأنشطته النووية في فترة العقوبات. والسقف الذي يريد النظام تحقيقه من الأنشطة النووية.

– السياسة الداخلية: الخلافات داخل الأجهزة، ونتائج التحقيقات في مراكز القرار، والمنافسات السرّية في الانتخابات الرئاسية الإيرانية.

– المراكز الحسّاسة: المجلس الأعلى للأمن القومي، وزارة الدفاع والدعم اللوجستي للقوات المسلّحة، وقيادة أركان القوات المسلّحة.

– الاقتصاد: آثار العقوبات على إيران، أساليب الالتفاف عليها، الأفكار التي تطرحها الحكومة لزيادة مداخيلها من العملة الصعبة بعيداً عن النفط، والتبادل التجاري بين إيران والصين وروسيا.

– الدفاع والعسكر: معلومات عن الأشخاص المؤثّرين في الصناعات العسكرية مثل محسن فخري زاده، وعن التكنولوجيا الإيرانية في مجال صناعات الطائرات المسيَّرة، والسياسات الدفاعية العامّة، والقدرات الصاروخية.

– السياسة الخارجية: المفاوضات النووية ومحاور المفاوضات غير النووية المحتملة، وعلاقات إيران مع الغرب وروسيا والصين ودول الخليج.

– القضايا الإقليمية: علاقات إيران مع الدول العربية في المنطقة، خطوات إيران الاستباقية للمواجهة مع أميركا، وعلاقاتها مع فصائل المقاومة.

بعد الإعلان عن اعتقال أكبري ومحاكمته وصدور الحكم القطعي والنهائي بإعدامه بعد رفض الاستئناف الذي تقدّم به محاميه، تحدّثت مصادر عن اعتقال مسعود مسعودي المدير التنفيذي لمطار كاشان وسط إيران بتهمة الفساد الماليّ. ويُعتقد أنّ هذا الاتّهام ما هو إلا تغطية على الأسباب الحقيقية، لأنّ مطار كاشان يُعتبر مطاراً شبه عسكري وأمنيّ بسبب وقوعه قرب منشآة نطنز وتسهيله نقل تجهيزات نووية وصاروخية وطائرات مسيّرة وعلماء ذرّة. والخطوط الجويّة “معراج” التابعة للمؤسّسة العسكرية هي التي تقوم بغالبيّة الرحلات من هذا المطار وإليه. ولا تستبعد هذه المصادر أن يكون اعتقال مسعودي على ارتباط بملفّ أكبري.

شمخاني يقترب من الإقالة

ترتبط جميع المناصب والمواقع، التي عمل فيها وشغلها أكبري على مدار العقود الماضية، بالمواقع والمناصب التي شغلها علي شمخاني: نائب قائد حرس الثورة، قيادة القوات البحرية للحرس، وزير الدفاع في حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي. وهذا يجعل احتمال إخراج شمخاني من منصبه الراهن واستبداله أقرب إلى التحقّق. ففضلاً عن الصدمة التي أحدثها الكشف عن أكبري القريب من شمخاني وعن المواقع التي تولّاها، فإنّ المواقع والمناصب الإيرانية العليا والحسّاسة صارت مكشوفة لأجهزة الاستخبارات البريطانية، ومن ورائها الأميركية والإسرائيلية. وهذا يستتبع أن يتحمّل شمخاني جزءاً من المسؤولية في هذا الخرق الكبير.

مع تنفيذ الحكم الذي قضى بإعدام أكبري فجر يوم أول من أمس، بعدما استدعت إدارة السجن عائلته لإجراء مقابلة أخيرة معه قبل يوم واحد من إعدامه، بدأت التكهّنات ترتفع حول الشخصية المرشّحة لخلافة شمخاني في منصب الأمين العامّ للمجلس الأعلى للأمن القومي ولتمثيل المرشد الأعلى في هذا المجلس.

من بين الأسماء التي يتمّ الحديث عنها لخلافته، تبرز أسماء كلّ من اللواء علي رضا رشيد الذي عيّنه خامنئي أخيراً قائداً لمقرّ خاتم الأنبياء في حرس الثورة، واللواء المتقاعد مصطفى نجار وزير الدفاع في عهد محمود أحمدي نجاد، والعميد أحمد وحيدي الذي شغل منصب وزير الدفاع في حكومة أحمدي نجاد الثانية ويشغل الآن منصب وزير الداخلية إلى جانب عضويّته في مجمع تشخيص مصلحة النظام.

قد تصبّ إقالة شمخاني في خدمة الجناح المتشدّد في التيار المحافظ الذي يمثّله سعيد جليلي وحميد رسائي المقرّب من الشقيقين حسين طائب رئيس جهاز استخبارات الحرس المُقال، ومهدي طائب الذي يرأس مؤسّسة “عمّاريون” التي تتولّى مهمّة الترويج والتعبئة لهذا الجناح، وأحد أذرع الحرس الثقافية والمقرّبة من مكتب المرشد الأعلى ونجله مجتبى.

فتح هذا التيار النار مبكراً على شمخاني من باب محاولة تحميله مسؤولية الأزمة التي واجهها النظام جرّاء موجة الاحتجاجات والحراك الشعبي. وهذا ما قد يجعله أوّل ضحايا أكبري، ويجعل الجناح المتشدّد قاب قوسين من إحكام قبضته على مفاصل النظام في إطار مخطّطه للإمساك بالسلطة ومستقبل إيران.

كشف أكبري أيضاً أنّه تعرّض عام 2019 للاستجواب من الأجهزة الإيرانية بعد شكوك دارت حوله جرّاء النزف في المعلومات السرّية ووصولها إلى أجهزة غربية

اختراقات سابقة

منذ اندلاع الحراك الشعبي الإيراني قبل أربعة أشهر إثر مقتل مهسا أميني، لم تتوقّف الأجهزة الأمنيّة في إيران، وتحديداً وزارة الاستخبارات والأمن وجهاز استخبارات حرس الثورة، عن إعلان قيام “جنود إمام الزمان المجهولين” بالكشف عن شبكات تجسّس تعمل لدى أجهزة استخبارات دولية وإقليمية لضرب استقرار إيران الداخلي ومساعدة الجماعات الانفصالية في تحرّكاتها ضدّ النظام والحكومة المركزية في طهران.

كان آخِر ما وصلت إليه وزارة الاستخبارات والأمن في الأيام الـ15 الماضية هو كشفها عن تفكيك 4 خلايا تجسّسية تعمل لدى جهاز الموساد الإسرائيلي، وتخطّط لاغتيال شخصية كبيرة في النظام ولأعمال تفجير في عدد من المدن الإيرانية الرئيسية.

من المعروف أنّ النظام الإيراني يخوض حرباً استخباراتية مفتوحة مع جهاز الموساد الإسرائيلي الذي وجّه ضربات موجعة للنظام الإيراني وأجهزته الأمنيّة، وخاصة في ما يتعلّق بالبرنامج النووي. إذ تمكّن الموساد من النفاذ إلى المنشآت النووية الإيرانية المحصّنة والخاضعة لإجراءات أمنيّة مشدّدة تشمل رقابة العاملين فيها وتمنع أيّ شخص من الاقتراب منها، على الرغم من وجود نظام دفاع جوّي متطوّر لهذه المنشآت يعتمد في جزء منه على منظومات تور إم وان وإس 200 وإس 300 الروسية الصنع، وباور 373 الإيرانية الصنع، واستطاع استهداف بعض المواقع:

– تفجير منشأة نطنز وعنبر تجميع وإنتاج أجهزة الطرد المركزي.

– استهداف منشآة “تسا” قرب مدينة كرج، الواقعة على بعد 40 كلم غرب طهران، والمخصّصة لتصنيع أجهزة طرد مركزي متطوّرة.

– انفجارات غامضة في منشآت بارتشين النووية شرق طهران.

– وصول عناصر الموساد بسهولة إلى موقع “طورقوزاباد” جنوب طهران، ونقل أطنان من الوثائق السرّية والأقراص المدمجة المتعلّقة بالبرنامج النووي إلى خارج إيران من دون أيّ عائق. وتحوّلت هذه الوثائق إلى مادّة أساسية في المعركة الأمنية والسياسية التي خاضها رئيس الوزراء الإسرائيلي العائد بنيامين نتانياهو لعرقلة مساعي إعادة إحياء الاتفاق النووي.

لقد كشفت هذه الوثائق للمرّة الأولى عن اسم الجنرال محسن فخري زاده ومسؤوليّته في قيادة البرنامج النووي الإيراني، ومكّنت نتانياهو من توتير العلاقة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بعدما زوّدها بمعلومات موثّقة عن مواقع نووية إيرانية سرّية لم تكشف عنها للوكالة وللمفتّشين الدوليين. وهذا عرقل المسار التفاوضي لإعادة إحياء الاتفاق، بعد تمنّع إيران عن الإجابة على أسئلة الوكالة عن هذه المواقع، واشترطت مقابل الإجابة أن تعلن الوكالة ختم التحقيق في الأنشطة النووية نهائياً، وأن لا تعود إلى فتح أيّ ملفّ بناء على الوثائق التي قد تزوّدها بها إسرائيل.

كان حزيران الماضي المحطّة الأبرز في الحرب الاستخباراتية، عندما قرّر النظام الإيراني عزل الشيخ حسين طائب، المقرّب من مجتبى خامنئي النجل الأوسط للمرشد، عن رئاسة جهاز استخبارات حرس الثورة الإسلامية، الذي كان يرأسه منذ عام 2009. وجرى عزله بعدما اتّهمته إسرائيل بالضلوع في التخطيط لاغتيال إسرائيليين في تركيا، إضافة إلى اتّهامه بالتقصير في حماية عدد من العلماء النوويين وضبّاط الحرس الذين تمّ اغتيالهم في ربيع 2022 في طهران، وتحميل الموساد المسؤولية عن ذلك. ونقلت إيران مسؤولية أمن المواقع والعلماء النوويين إلى هذا الجهاز بعد سلسلة التفجيرات والاغتيالات التي حصلت في السنتين الأخيرتين، وقد عجز هذا الجهاز عن التوصّل إلى الشبكة التي تولّت مهمّة اغتيال “أبي البرنامج النووي” فخري زاده في تشرين الثاني 2020.

إقرأ أيضاً: إيران المضطربة.. والهدوء السعوديّ المستفِزّ

لقد وضعت التسريبات الإسرائيلية عن اختراق إسرائيلي كبير داخل النظام الإيراني سمح بالوصول إلى دوائر القرار العليا في النظام، وتصريحات وزير الاستخبارات الأسبق علي يونسي الصادمة، بعد اغتيال فخري زاده، بأنّ أجهزة الاستخبارات الخارجية تخترق كلّ الدوائر الإيرانية، وقادرة على الوصول إلى كلّ المسؤولين، وهذه الخيوط والأحداث والخسائر النظام الإيراني وأجهزته أمام تحدّي البحث عن أماكن الخرق التي تسبّبت بهذا النزف في المعلومات والشخصيات القيادية.

إقرأ أيضاً

عن فلسطين ولعنة وحدة السّاحات

“راح أحمدُ يلتقي بضلوعه ويديه… كان الخطوةَ النجمهْ ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط… كانوا يُعدّون الرماحَ وأحمدُ العربيّ يصعد كي يرى حيفا…

ردّ إيران.. وردّ إسرائيل: لبنان سيكون الضحية؟

حصل الردّ على الردّ. عادةً إسرائيل “لا تنام على ضَيم”. تردّ خلال ساعات على أيّ استهداف ضدّها في الداخل أو الخارج. بيد أنّ استهدافها يوم…

إسرائيل في الضفة الغربية: تفاصيل حرب تهجير صامتة

ها هي حرب غزة تلد في الضفة الغربية حرباً لا تقلّ ضراوة وخطراً على القضية الفلسطينية. نابلس وجنين وطولكرم والخليل والبلدات المحيطة بها والمخيّمات، يستبيحها…

نقابة المهندسين: باسيل فاز.. جعجع انتصر.. المسلمون حسموا

انتهت انتخابات نقابة المهندسين. فاز المهندس العوني فادي حنّا بمركز نقيب المهندسين، وفازت لائحته التي يدعمها التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي وجمعية المشاريع. لكنّ المعركة…