البابا الراحل: حوار وتسامح طوال نصف قرن

تُعدّ رئاسة بابا الفاتيكان لجنازة سلف له سابقة في تاريخ الكنيسة، وذلك بسبب عدم حدوث سابقة أخرى في تاريخ الكنيسة منذ ما يزيد على 600 سنة. فقد تخلّى البابا بندكتوس الـ16 عن مهامّه البابويّة (سنة 2013) لأسباب صحّيّة، كما أعلن حينذاك. وعلى مدى 8 سنوات كان في الكنيسة الكاثوليكيّة بابوان: أحدهما “فعليّ” يرأس الكنيسة، وهو فرنسيس الثاني، والآخر “فخريّ” هو بندكتوس الـ16. وسُلّطت الأضواء على الأوّل، فيما انعزل الثاني في دير متفرّغاً للصلاة وللعمل الأحبّ إلى قلبه: البحث اللاهوتيّ الذي بدأ حياته الكنسيّة وأنهاها به. إنّه جوزف راتزنغر. فمن هو هذا الرجل؟

 

طفولة مضطربة

في 16 نيسان 1927 أبصر جوزف النور في ألمانيا قرب الحدود النمساوية. كانت طفولته وشبابه مضطربين في مرحلة ما بين الحربين العالميّتين في أوروبا والعالم. بعد سنتين على ولادته (1929) بدأت الأزمة الماليّة العالميّة. عانى الألمان الفقر والجوع وتدهور عملتهم، فيما كان الاقتصاد الألماني مرهقاً بدفع تعويضات الحرب الأولى. وبعد أربع سنوات (1933) وصل إلى السلطة أدولف هتلر الزعيم المُصاب بجنون العظمة الذي غامر ببلده وشعبه والعالم لإشباع نزواته السلطويّة تحت شعار استعادة أمجاد العرق الجرمانيّ. وشأنه شأن كلّ الديكتاتوريين في العالم على اختلاف أحجامهم، لا يستمرّ في السلطة إلا بالحروب، ولا يرتوي إلا بالدماء، ولا يفرح إلا بمشاهد الدمار والخراب.

تُعدّ رئاسة بابا الفاتيكان لجنازة سلف له سابقة في تاريخ الكنيسة، وذلك بسبب عدم حدوث سابقة أخرى في تاريخ الكنيسة منذ ما يزيد على 600 سنة

في عام 1939 أطلق هتلر شرارة الحرب العالميّة الثانية، فبدأت مرحلة جديدة من القلق والخوف التي عاشها الشاب جوزف راتزنغر. كان ضدّ النازيّة. ولكنّه أُجبر، كما كلّ أبناء جيله، على الخدمة في الجيش النازيّ.

 

اللاهوتيّ المميّز

بعد الحرب مباشرة (1946-1951) بدأ جوزف دراسة الفلسفة واللاهوت في جامعة ميونيخ وأصبح كاهناً. نال شهادة دكتوراه في اللاهوت العقائدي (1953) ودرّس اللاهوت في جامعات ألمانيّة عدّة: ميونيخ، بون، مونستر، وتوبنغن. وشغل كرسي العقيدة وتاريخها في جامعة راتيسبون (ابتداءً من 1969). كان خبيراً لاهوتياً في المجمع الفاتيكاني الثاني (1961-1965). وفي سبعينيّات القرن الماضي بدأ يلمع نجمه لاهوتيّاً وكان له تأثيره في الكنيسة الكاثوليكيّة إلى جانب آخرين أمثال هانس بالتازار وإيف كونغار وهنري دو لوباك.

كان المطران المارونيّ سمعان عطالله أحد طلّابه. يذكر أنّ راتزنغر كان “لطيفاً. صادقاً مع ذاته. لا يساير ولا يساوم. رجل حوار عميق. محاور على قاعدة أن تكون من أنت، وأن يكون الآخر من هو. كان شغوفاً بمعرفة الحقيقة. حقيقة الله”. هذا الشغف رافقه طوال حياته الكهنوتية والتعليميّة والأسقفيّة. فهو اختار شعاراً لأسقفيّته (1977): “المتعاون من أجل الحقيقة”. وقال في عظة سيامته الأسقفية: “تتعدّد النشاطات وتبقى الحقيقة وخدمتها هما الأساس”. في العام ذاته عيّنه البابا بولس السادس كاردينالاً. وشارك في انتخاب يوحنّا بولس الأول (آب 1978) ويوحنّا بولس الثاني (تشرين الأول 1978) الذي عيّنه مسؤولاً عن “مجمع العقيدة والإيمان” (1981)، ورئيس اللجنة البيبليّة (المعنيّة بالكتاب المقدّس) الحبريّة ورئيس اللجنة اللاهوتيّة العالميّة في الكنيسة الكاثوليكيّة.

يروي الأب طانيوس بو منصور، الباحث اللاهوتيّ المارونيّ الذي مثّل الشرق الأوسط على مدى 5 سنوات في اللجنة اللاهوتيّة، عن راتزنغر “اللطيف، الهادئ، المتواضع، صاحب الذاكرة الخارقة، المحافظ والمنفتح في آن، أنّه كان يصرّ على افتتاح كلّ اجتماع بخطاب باللاتينيّة، على الرغم من أنّ أحداً لم يكن يفهم شيئاً”. ولكنّه كان منفتحاً على الحوار مع الأديان والكنائس على أساس الحقيقة، حقيقة كلّ دين وكلّ كنيسة. وفي عمله مع يوحنّا بولس الثاني تطوّر الحوار مع الإسلام ومع الكنائس الشرقيّة الأرثوذكسيّة. ولبنان كان مختبراً أساسيّاً في الحوارَين. في المقابل لم يتطوّر الحوار مع البروتستانت لأنّ راتزنغر لم يكن يعتبرهم كنيسة بل “جماعة”.

طوال ربع قرن أصبح الكاردينال راتزنغر “حارس” العقيدة الكاثوليكيّة ولاهوتيّ الكنيسة الكاثوليكيّة. فالبابا يوحنّا بولس الثاني كان معجباً جدّاً بفكره اللاهوتيّ

حارس العقيدة

طوال ربع قرن أصبح الكاردينال راتزنغر “حارس” العقيدة الكاثوليكيّة ولاهوتيّ الكنيسة الكاثوليكيّة. فالبابا يوحنّا بولس الثاني كان معجباً جدّاً بفكره اللاهوتيّ، فكان يجتمع به مرّة أو مرّتين في الأسبوع. إضافة إلى رئاسته مجمع العقيدة والإيمان، عيّنه عضواً في “الكوريا الرومانيّة”، وعضواً في مجلس العلاقة مع الدول (وبينها دول الشرق الأوسط)، وعضواً في مجامع (مجالس) عدّة، أحدها مجمع الكنائس الشرقيّة.

لذلك حرص خلال زيارته لبنان لمناسبة اختتام المجمع المسكوني من أجل الشرق الأوسط على زيارة دير الشرفة للسريان في غوسطا ودير الأرمن في بزمّار. في هذا المجمع سيبرز البابا بندكتوس رجل حوار بين الأديان، وتحديداً بين المسيحيّة والإسلام، على الرغم من الضجّة التي قامت ضدّه إثر محاضرته في جامعة راتيسبون في ألمانيا بعد سنة على تولّيه السدّة البابويّة.

 

رجل الحوار بين الإسلام والمسيحيّة

ربّما أخطأ بندكتوس الـ16 باستشهاده بما قاله أحد الأباطرة البيزنطيين عن الإسلام والنبيّ محمّد. فالبابا، حسب الإيمان الكاثوليكي، ليس معصوماً عن الخطأ إلا في المسائل العقائديّة. وفي كلّ الأحوال يجب وضع تلك المحاضرة في إطارها الجيوسياسيّ العالميّ: في عام 2006، كان قد مضى سنوات خمس على الحرب الأميركيّة على “الإرهاب الإسلاميّ” المتمثّل بتنظيم القاعدة، وثلاث سنوات على الاجتياح الأميركي للعراق الذي وُصف في دول إسلاميّة عدّة بـ “الحرب الصليبيّة”. وكثُر الكلام عن مخطّط لتقسيم دول الشرق الأوسط (ذات الغالبيّة الإسلاميّة). كان الصراع على أشّده بين الشرق والغرب، فانعكس سوءاً على العلاقة بين المسيحيّة والإسلام. فالولايات المتحدة الأميركيّة لا تمثّل المسيحية العالميّة. وتنظيم القاعدة كان يفجّر ويقتل في الدول الإسلاميّة نفسها ويكفّر قادتها وشعوبها.

في هذا الظرف الجيوسياسيّ المعقّد أراد البابا الراحل تفعيل الحوار بين المسيحيّة والإسلام، ومع الأديان الأخرى: اليهوديّة والبوذيّة والهندوسيّة، من أجل السلام العالميّ وخير الإنسان. ومن بكركي (أيلول 2012) حيّا الشباب المُسلم الذي كان حاضراً اللقاء إلى جانب الشباب المسيحيّ، وقال لهم: “أنتم مستقبل هذا البلد الرائع وكلّ الشرق الأوسط… برؤيتكم يجب أن يفهم الشرق الأوسط أنّ المسلمين والمسيحيين، الإسلام والمسيحيّة، يمكن أن يعيشوا معاً من دون حقد محترِمين المعتقدات من أجل بناء مجتمع حرّ وإنسانيّ”.

إقرأ أيضاً: لماذا فجّر البابا بنديكتوس العلاقة مع الأزهر؟

رحل جوزف راتزنغر، أو البابا بندكتوس الـ16. ولكنّ فكره ولاهوته وانفتاحه على الكنائس والأديان تبقى حاضرة في العالم من خلال أداء الكنيسة الكاثوليكيّة التي طبعها بفكره وكتاباته على مدى أكثر من نصف قرن. وهذا ما يتجلّى بزيارات البابا الحالي للدول العربيّة وتوقيعه وثائق تقرّب بين الديانتين.

 

*أستاذ في الجامعة اللبنانية 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@

 

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…