زيلينسكي.. “القائد الخادم” يصنع أوكرانيا الجديدة

بلغ الإعحاب الغربي بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (44 عاماً) حدّاً غير مسبوق، بسبب شجاعته غير المتوقّعة في مواجهة الغزو الروسي لبلاده، وقدرته على استنهاض الأوكرانيين شعباً وجيشاً لمقارعة ما كان يُظنّ إلى مطلع العام الماضي فقط أنّه أعتى قوّة برّية في الأرض. حتى إنّ بعض المحلّلين والخبراء باتوا يقارنونه بأعظم شخصيّتين غربيّتين في العصر الحديث: جورج واشنطن (توفّي عام 1799) بطل الاستقلال الأميركي، وونستون تشرشل (توفّي عام 1965) الزعيم البريطاني العنيد الذي رفض الاستسلام لأدولف هتلر (انتحر عام 1945) إبّان الحرب العالمية الثانية (1939-1945). والاثنان خاضا المعارك في ظروف شبه ميؤوس منها، وتمكّنا بصلابتهما وشجاعتهما أن يكونا القدوة والنموذج المُلهم حتى تحقيق النصر.

لكنّ هذه المقارنة، مع المبالغة بالنظر إلى كون زيليسنكي كوميديّاً سابقاً، ولم يكن يحمل خبرات سابقة تؤهّله لهذه المكانة، هي من آثار “الصدمة” التي لا تفتأ تسري في أوساط دارسي نظريّات القيادة وأنماطها، في محاولة منهم لتصنيف هذا الرئيس الشابّ، الذي خالف بأدائه السياسي كلّ التوقّعات التي سبقت “العملية الخاصة” الروسية في 24 شباط الماضي، والهادفة إلى إسقاط الحكم في كييف، وتغيير موازين القوى في أوروبا والعالم، وربّما التمهيد لاسترجاع الاتحاد السوفيتي من دون الحزب البلشفي الشيوعي.

استخدم زيلينسكي في حملته الانتخابية الباهرة، أحدث وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت تشاركيّة على نطاق واسع، مع محاولة تأسيس علاقة مباشرة مع الناخبين

صورة متغيّرة

نستعرض هنا ما كان عليه الرأي في زيليسنكي لدى انتخابه رئيساً في عام 2019 بأغلبية ساحقة:

– حجم التوقّعات والشكوك في ما كان بمقدوره أن ينجزه من إصلاحات سياسية ومكافحة الفساد الراسخ في أوكرانيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، أو ما يمكن بخلاف ذلك أن يتسبّب به من كوارث لقلّة خبرته وشعبويّته، على غرار ما كان عليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

– كيف تحوّلت صورته أمام الرأي العامّ المحلّي والعالمي إلى العكس تماماً: من الاستخفاف والتشكيك في قدراته على الحكم، إلى اعتباره قائداً تاريخياً في لحظة حاسمة.

– ما الذي يمكن أن يقوله علم القيادة عن حالة استثنائية كهذه؟ هل هو قائد بالفطرة، فأظهرت الأزمة مواهبه، أم هو مجرّد ممثّل ناجح أتقن دور القائد ففاجأ الجميع حتى بوتين نفسه؟

– هل يمتلك الكاريزما القيادية فيتماهى الناس معه بوصفه رمزاً لما يتطلّعون إليه؟

– هل هو مجرّد إداري ناجح في زمن حرج، أم قائد تغييري للمزاج الشعبي الذي نقله من موقع الركون والخمود والاستسلام إلى موضع الاندفاع والحماسة والكفاح؟

 

زيلينسكي بين زمنين

تكشف ورقة سياسية صادرة في 25 أيلول 2019 عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية Foreign Relations European Council on (أُسِّس عام 2007)، أي بعد خمسة أشهر من فوز زيلينسكي بالرئاسة، حجم التحدّي والغموض في أوكرانيا ذاك العام.

أوّلاً، لم يستوعب الأوكرانيون الواقع الجديد: يصبح الممثّل الكوميدي رئيساً للدولة، حاصلاً على 73% من أصوات الناخبين. وفاز حزبه بأغلبية مطلقة في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي دعا إليها في تموز من العام نفسه: 254 مقعداً من أصل 424، وبقي 26 مقعداً خالياً تمثّل المناطق المحتلّة في القرم والدونباس. والمفارقة أنّ ما كان يشغل الأوكرانيين قبيل المجيء بزيلينسكي ليس السعي إلى أوروبا والانضمام إلى الناتو، أو تحرير المناطق المحتلّة من روسيا في الجنوب والشرق، أو المصاعب الاقتصادية، بل الفساد المستشري، وهو سمة النظام كما المجتمع. وكمثال على المزاج الشعبي الحائر، نشر مركز أوروبا الجديدة New Europe Centre ورقة بحثية عام 2018 تحت عنوان: “صمت خاركيف Silence of Kharkiv“، كشفت أنّ 32% من سكّان خاركيف يؤيّدون انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي في مقابل 27% يدعمون الاتّحاد الجمركي مع روسيا، والثلث الباقي حائر. ومعلوم أنّ إقليم خاركيف شهد أقسى المعارك في الأشهر الماضية، وحقّق فيه الأوكرانيون أبرز نجاحاتهم العسكرية، لا سيّما في أيلول الماضي. والمحصّلة أنّ معظم الأوكرانيين كانوا يعتقدون أنّ سبب الفساد يكمن حصراً في أعلى مستوى سياسي، مع أنّ المواطنين يشاركون في الفساد من خلال دفع الرشوة لتيسير معاملاتهم. بل إنّ الديمقراطية نفسها مبتلاة بالعلاقة الزبائنية بين الناخبين والمرشّحين، وبالضغوط التي يمارسها أصحاب النفوذ على الكتل الناخبة.

وصل زيلينسكي إلى السلطة عبر شيطنة سلفه، وبنى صعوده السريع على كونه متمرّداً على النظام والطبقة السياسية والسياسة التقليدية، ومصمّماً على قلب النظام القديم

ثانياً، استخدم زيلينسكي في حملته الانتخابية الباهرة، أحدث وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت تشاركيّة على نطاق واسع، مع محاولة تأسيس علاقة مباشرة مع الناخبين. والنتيجة: تأسيس حزب جديد مليء بوجوه من خارج السياسة. وبعد وقت وجيز من الانتخابات الرئاسية، أُطلقت منصة LIFT من أجل التواصل المباشر مع الناس. وراح زيلينسكي ينشر بانتظام مقاطع فيديو عفوية تتعلّق بأنشطة رئاسية، وجوانب من حياته الخاصة، أو بثّ رسائل للأمّة، وتكون غالباً مباشرة إلى 8.4 ملايين متابع على إنستغرام. في المقابل لم يكن لبوتين أيّ حساب على إنستغرام أو فيسبوك. أمّا حساب الكرملين في تويتر فكان يبلغ عدد متابعيه 3 ملايين و736 ألف متابع. كان زيلينسكي أكثر تواصلاً مع مواطنيه بأضعاف عدّة من غريمه الروسي لدى اندلاع الحرب. وهذا ما يفسّر التفوّق الأوكراني الواضح في حرب المعلومات منذ البداية. وكان زيلينسكي نجم هذه الحرب بلا منازع، بخطاباته المتلاحقة لجمهور مختلف ومتباين في اهتماماته وأولويّاته في الداخل والخارج.

ثالثاً، كمثل كثير من الشعبويين، وصل زيلينسكي إلى السلطة عبر شيطنة سلفه، وبنى صعوده السريع على كونه متمرّداً على النظام والطبقة السياسية والسياسة التقليدية، ومصمّماً على قلب النظام القديم. ويمكن مقارنته بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. بل إنّ البعض شبّه حزبه “خادم الشعب” بحزب البلاشفة الذي أسقط حكم القياصرة في روسيا عام 1917. لكنّ التغيير الجذري في أوكرانيا صعب وتوقّعات الناس عالية. صحيح أنّه خصخص أكثر من 500 شركة مملوكة من الدولة، وعيّن في مناصب الدولة من هم بعيدون عن النخبة المالية المسيطرة، أي الأوليغارشيا، وابتعد هو نفسه عن البليونير إيغور كولوميويسكي صاحب القناة التلفزيونية التي احتضنت زيلينسكي وأوصلته إلى النجومية فالرئاسة. لكنّ العقبات كبيرة، والاقتصاد لم يتحسّن كثيراً. والأهمّ أنّه لم يستطع الوفاء بوعده الانتخابي بأن يتوصّل إلى اتفاق سلام مع روسيا. لذلك بدأت شعبيّته بالانحدار قبيل الغزو الروسي. وفي تشرين الثاني 2021 عندما كانت روسيا تحشد جيوشها على الحدود نزلت نسبة الثقة به إلى ما يقارب 28%. لكن بعد الغزو الروسي صار 97% من الأوكرانيين يثقون بالجيش، و85% يثقون بزيلينسكي. وهذا تغيير كبير في المزاج الشعبي ناتج بالضرورة عن نجاح الرئيس الأوكراني في قيادته الحرب.

 

مواصفاته القياديّة

منذ مطلع الثمانينيّات تركّزت أبحاث القيادة على نمط القيادة التحويلية أو التغييرية، وهي تختلف عن القيادة التفاعلية بأنّ التغييرية تكون عندما يتواصل الشخص مع الآخرين، فيرفع مستوى الحافز والأخلاق لدى كلٍّ من القائد والتابع في الوقت نفسه. وينتبه هذا النوع من القادة لاحتياجات الأتباع ودوافعهم، ويحاول مساعدتهم للوصول إلى أقصى إمكاناتهم. ويُعتبر المهاتما غاندي مثالاً كلاسيكياً على القيادة التحويلية. وتتداخل القيادة التحويلية غالباً مع الكاريزما التي يتحلّى بها بعض القادة. وهي ميزة شخصية أو قوة استثنائية تدفع الناس إلى التعامل مع صاحبها كقائد. ومن خصائص الشخصية الكاريزمية أن يكون مهيمناً، ولديه رغبة قويّة في التأثير، وواثقاً من نفسه، ولديه إحساس قوي بالقيم الأخلاقية (انظر كتاب بيتر نورثهاوس، القيادة: النظريّة والممارسة). فهل تنطبق هذه المواصفات على زيلينسكي؟

إقرأ أيضاً: زيلينسكي الذي ما زلنا نجهله

ما هو أقرب إلى شخصية الرئيس الأوكراني، مفهوم القائد الخادم الذي أطلقه روبرت غرينليف في كتابه الصادر عام 1970: “الخادم قائداً”. والقائد الخادم متفوّق وظيفياً وأقرب إلى الأرض وبصيرته البديهية استثنائية، ويُعتمد عليه. والبرنامج الكوميدي الساخر الذي أطلق نجومية زيلينسكي، كان عنوانه خادم الشعب، وحمل حزبه الاسم نفسه.

لقد بدأ الباحثون في أنماط القيادة يدرسون شخصية زيلينسكي منذ أن سطع نجمه دوليّاً، ويستخلصون منها الدروس، ومن أعجبها أنّ زيلينسكي هو من المتكلّمين باللغة الروسية أصلاً ونشأ في الشرق الأوكراني الموالي لروسيا. لكنّه لكي يحصل على تأييد الأوكرانيين، تحدّث باللغة القومية الأوكرانية، وغيّر لهجته.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…