هل تخلّى اللبنانيّون عن فكرة الدولة؟

أضحى تفاهم مار مخايل 2006 خارج الصلاحية. وليس انتهاء مفاعيل الاتّفاق بحاجة إلى تأكيدات من حزب الله أو من التيار الوطني الحر، ولا يُنتظر إعلان سقوط الاتّفاق في الكنيسة التي وُقّع فيها. فعلى الرغم من فرادةٍ لامست قداسةً مدّعاة حاول كلّ من الأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله والعماد ميشال عون إسباغها على الاتّفاق عند توقيعه، ومن اعتباره نموذجاً يُحتذى من سائر القوى السياسية، فإنّ موقِّعَيْ الاتّفاق كانا يدركان منذ لحظة التوقيع أنّه ليس صناعة إلهية، بل هو غطاء لمصالح سياسية مشتركة جمعت بينهما محكومٌ بالسقوط فور انقضائها أو عند تعذّر تحقيقها.

نجح الفريقان في تحويل اتّفاق الطائف من وثيقة للوفاق الوطني ودستور لحكم البلاد إلى فضاءٍ مستباحٍ للخلافات السياسية وتعطيل المؤسّسات وتقويض السلطة وآليّات إنتاجها. نجحا أيضاً في تعطيل مجلس الوزراء وإقصاء رئيسه عن ممارسة دوره رأساً للسلطة الإجرائية المعنيّة بوضع السياسات العامّة وتنفيذها. وفي مسار تحقيق هذه “النجاحات” اُستُبيحت سيادة لبنان وعروبته وعلاقاته الدولية، واُستُبيحت معها المشاركة السياسية من أجل زعامات طائفية أُعيد إنتاجها لتحاكي كلّ يوم حرباً أهليّة لم ينسَ اللبنانيون ويلاتها حتى الآن.

العقل الطفولي لدى باسيل، الذي لا يقيم وزناً لردود فعل وتساؤلات قد يثيرها أيّ انقلاب في المواقف لدى جمهوره قبل خصومه، يدفعه إلى الإعراب ببراءة مصطنعة عن إعجابه بتجربة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان

لنذهب في استعادة سريعة للمحطّات التي أعقبت توقيع الحزب على الاتّفاق بدءاً من الالتفاف على مقرّرات الحوار الوطني حتى غزوة بيروت والجبل في عام 2007، ثمّ الانتقال إلى القتال في الداخل السوري وشبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى تحوّل الحزب صانعاً للرؤساء ومفاوضاً في ترسيم الحدود البحرية، ثمّ قراءة مفاعيل كلّ ذلك على الدور الإقليمي للحزب وتطوّر نفوذ طهران في لبنان وسوريا. سيُظهر كلّ هذا أنّ حزب الله حقّق كلّ ما أراده في ظلّ التفاهم المذكور، في حين أنّ ما حقّقه الرئيس السابق ميشال عون من خلال الاستقواء بحزب الله وممارسة أقصى درجات العبثيّة لم يكن سوى محاكاة لسراب العودة إلى جمهورية من الزمن الغابر، جمهورية مترنّحة على وقع فيض من الهويّات المتصادمة والقابلة للانفجار عند كلّ متغيّر إقليمي.

تعذّر على الحزب استكمال المشوار مع حليفه الذي خال أنّه على شفير قبض ثمن تنازلاته بانتقالٍ للسلطة يفرضه الحزب في موقع الرئاسة، ثمّ اكتشف أنّ كلّ ما جناه، إلى جانب لعنات اللبنانيين، لم يكن أكثر من حفنة من الدولارات، فبدأت بعد ذلك رحلة الافتراق.

وصوليّة عارمة وعقل طفوليّ

لا بدّ من التمييز بين مستويَيْن مختلفين في مقاربة الانتخابات الرئاسية: المستوى الأول الذي تمثّله وصولية عارمة وعقل طفولي عند النائب جبران باسيل يدفعانه إلى التصرّف كمن يجهد للّحاق بقطار لن يمرّ ثانية من أمامه، بما يجعله غير آبه بالخروج من تفاهم مع حزب الله لن يعني له شيئاً بدون الرئاسة، وفي الوقت نفسه لا يضيره الانتقال إلى الضفّة المقابلة إذا تسنّت له الاستفادة من تموضعه الجديد.

أضحى تفاهم مار مخايل 2006 خارج الصلاحية. وليس انتهاء مفاعيل الاتّفاق بحاجة إلى تأكيدات من حزب الله أو من التيار الوطني الحر، ولا يُنتظر إعلان سقوط الاتّفاق في الكنيسة التي وُقّع فيها

العقل الطفولي لدى باسيل، الذي لا يقيم وزناً لردود فعل وتساؤلات قد يثيرها أيّ انقلاب في المواقف لدى جمهوره قبل خصومه، يدفعه إلى الإعراب ببراءة مصطنعة عن إعجابه بتجربة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، متجاهلاً ما يثيره ذلك النموذج من استفزاز لدى حزب لله، ومعتبراً أنّ هذا الموقف السطحي قد يساهم في تعديل مواقفه المتماهية مع حزب الله من المملكة العربية السعودية.

أمّا حزب الله فهو يقارب المسألة من زاوية مختلفة يمليها التزامه بتحصين الجمهورية الإسلامية التي تعيش عزلة غير مسبوقة، واستثمار موقعه في المعادلة اللبنانية لصالحها. ولذلك الانتخابات الرئاسية هي ورقة بتصرّف طهران متى طلبتها وجدتها، وهي في الوقت عيْنه مادّة التفاوض والتواصل الوحيدة الباقية لدى حزب الله لمخاطبة المعنيّين بالشأن اللبناني من الولايات المتّحدة وفرنسا ودول الخليج ومصر، بعد انتهاء موضوع ترسيم الحدود البحرية. وبهذا المعنى يعتبر حزب الله أنّ استخدام الورقة الرئاسية يجب أن يكون محسوباً في التوقيت والموقع المناسبَيْن بما يكفل استمرارية الحزب ودوره في لبنان وسوريا، أو بما يسمح بمقايضات وتنازلات مدروسة لقاء هذا الدور.

“كتم” ترشيح فرنجيّة

في هذا السياق يمكن فهم الأسباب التي تجعل الحزب يُبقي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية مرشّحاً غير معلن على الرغم من تزايد فرص توفير الأكثرية اللازمة لانتخابه. ويمكن أيضاً فهم الأسباب التي دعت حزب الله إلى زيارة بكركي وإطلاق رسائل من الصرح البطريركي في كلّ الاتجاهات تتضمّن الانفتاح على تسميات جديدة بعد فشل كلّ الدعوات إلى الحوار بين الكتل النيابية.

فهل يبحث حزب الله عن تفاهمات مسيحية جديدة تحت مظلّة بكركي بعد انتهاء صلاحية تفاهم مار مخايل وبعد التباعد الذي كرّسته العلاقة الأحاديّة مع التيار الوطني الحرّ؟

إقرأ أيضاً: باسيل لـ”أساس” (2): معجب بما يقوم به محمّد بن سلمان

بين مقاربة حزب الله الإقليمية للاستحقاق الرئاسي وطفولية رئيس التيار الوطني الحر، يأتي دور العرّافين المحليين والدوليين الذين يبشّرون بتصاعد الفوضى نتيجة الانهيار الاقتصادي وانفلات الوضع الأمنيّ وانطلاق موجة من الاغتيالات ستكون سبيلاً للخروج من الفراغ الرئاسي، ويختمون نبوءاتهم بتسمية المرشّح الملائم الذي يصبح أمراً واقعاً. يتناسى كلّ هؤلاء المقاربة التي تشقّ طريقها في صفوف اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم، والتي تسودها حالة من التخلّي عن فكرة الدولة والنأي عن استعادة الحياة المدنية إطاراً للتفاعل، والركون إلى بيئات داخلية وبناء اقتصادات محليّة وأمان اجتماعي بعيداً عن كلّ ما له علاقة بالشأن العامّ، ولا سيّما بعدما تأقلموا مع غياب الدولة الخدماتي والرعائي لسنوات طويلة.

لن يكمن المأزق المنتظر والأشدّ قساوة في انتخاب رئيس يستعيد الدولة، بل في إقناع اللبنانيين بجدوى وجود الدولة.

* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات

إقرأ أيضاً

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…

“حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟

لماذا تعمّدت طهران ليلة السبت المنصرم الكشف عن كلّ تفاصيل خطة الهجوم الذي أعدّته ضدّ تل أبيب انتقاماً لاستهداف قنصليّتها في دمشق قبل أسبوعين والتسبّب بسقوط قيادات…

بايدن الرابح الأكبر من الضربة الإيرانيّة لإسرائيل

 ربح جو بايدن مزيداً من “المونة” على إسرائيل يمكّنه من لجم اندفاعها العسكري ضدّ إيران بعد توظيفه الدفاع عنها في المشهد الانتخابي. اكتسبت طهران موقع…