أين “ثِمار” الترسيم: “أكلنا الضرب”؟

من غرائب أحوال لبنان في هذه الأيام أنّه عاش على حلم النفط والغاز في نهاية تشرين الأول الماضي، لكنّه يستفيق الآن على كابوس العتمة الشاملة وفقدان القيمة الشرائية للعملة الوطنية بصورة مرعبة. فهل الترسيم البحري الذي وقّعه لبنان مع إسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأميركية بدعم كامل من “حزب الله” كان خدعة يدفع لبنان الآن ثمنها باللحم “الفريش” تشبّهاً بالدولار الذي صار شرطاً للحياة في هذه البلاد، وهو شرط لا يستطيع الاستجابة له سوى قلّة من سكّان هذه البلاد؟

بينما خرجت الولايات المتحدة وإسرائيل بمكاسب فورية من الترسيم، مُنِي لبنان بتلاشي فرصة وصول الغاز المصري إلى مصافيه، والكهرباء من الأردن إلى شبكاته

لا يبدو أنّ جواباً سمعناه في الأيام الماضية في منتدى اقتصادي عربي استضافته بيروت سيضع النقاط على حروف الانهيار الذي اندفع إليه لبنان بعد الترسيم. وما بات أقرب إلى الفهم هي روايات متعدّدة من مخزن “نظريّة المؤامرة”، مثل كون “الترسيم هو صفقة مقايضة بين واشنطن وطهران، فأخذت الأولى مكسب الترسيم في مواجهة أزمة الطاقة التي نشبت جرّاء الحرب الأوكرانية قبل نحو 10 أشهر، فيما أخذت الثانية نفوذاً متجدّداً في العراق بعد الاهتزاز الكبير الذي عرفته بلاد ما بين النهرين، وهو ما سمح للجمهورية الإسلامية أن تفوز بمعركة رئاسة الحكومة هناك على حساب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي كاد أن ينتزع من طهران هذا النفوذ”، ومصطفى الكاظمي أيضاً بعد نجاحه في ضبط التوازن داخلياً وخارجياً.

في المقابل، تبدو فرضيّة “الخدعة” لها ما يؤازرها في حسابات الربح والخسارة. فبينما خرجت الولايات المتحدة وإسرائيل بمكاسب فورية من الترسيم، مُنِي لبنان بتلاشي فرصة وصول الغاز المصري إلى مصافيه، والكهرباء من الأردن إلى شبكاته، وفق ما وعد به بكلام مباشر الوسيط الأميركي آموس هوكستين والسفيرة الأميركية دوروثي شيا قبل التوقيع على الترسيم. أمّا “حزب الله” فبدا في موقع الخاسر جرّاء تدهور الأوضاع في لبنان بعد كلام مشبع بالتفاؤل أطلقه الأمين العامّ حسن نصرالله في أكثر من إطلالة قبل الترسيم.

هل الأمر على هذا القدر من الوضوح؟ وهل نشاهد فيلماً في عالم المافيا حيث القتل والخداع والاحتيال شريعة العصابات؟

مع مرور الوقت، تلاشى الأمل في بلوغ ترياق الترسيم، وحلّت مكانه في الأيام الماضية العودة إلى تجربة مماثلة قبل أعوام، عندما كانت مشتقّات الطاقة المدعومة في لبنان تشقّ طريقها إلى سوريا العطشى إليها

أَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُ

ما يزيد الصورة عتمة أنّ ألسنة المعنيّين في السلطة السياسية لا تلفظ كلمة “سوء” واحدة في حقّ الترسيم حتى الآن. ومن الأمثلة كلام رئيس الجمهورية السابق ميشال عون الذي وقّع على الترسيم في الساعات الأخيرة من ولايته، والذي قال قبل أيام إنّ “ترسيم الحدود كان هديّتي إلى اللبنانيين قبل انتهاء ولايتي الرئاسية…”. أمّا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والمستمرّة ولايته، فقال إنّ “الدولة اللبنانية أنجزت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية… واستكشاف الغاز سيدرّ مكاسب اقتصادية مهمّة على لبنان”.

يبدو أنّ على اللبنانيين، تمضية ليالي شتائهم الحزين في العتمة والاكتفاء بنار الغلاء وينتظرون ليلة قدر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي كان من “الهدايا” الموعودة في حال قَبِل لبنان الترسيم.

مع مرور الوقت، تلاشى الأمل في بلوغ ترياق الترسيم، وحلّت مكانه في الأيام الماضية العودة إلى تجربة مماثلة قبل أعوام، عندما كانت مشتقّات الطاقة المدعومة في لبنان تشقّ طريقها إلى سوريا العطشى إليها. والآن تصاعدت معضلة الفريش الدولار الذي كان في صلب مناقشات الاجتماع الأخير للجنة الأشغال العامّة التي طالبت بأن “يفرج حاكم مصرف لبنان عن الأموال المخصّصة للكهرباء التي تمّ خفضها من 600 مليون دولار إلى 300 مليون دولار”، من أجل توفير الكهرباء لـ5 ساعات يوميّاً. في المقابل، تحدّثت أوساط إعلامية عن “الدولار اللبناني” الذي يُضخّ بكثرة في السوق السورية بسبب انهيار سعر صرف الليرة السورية من 3,800 ليرة للدولار الواحد، إلى 6,500 اليوم، حتى باتت دولارات لبنان تموّل اقتصادَيْ لبنان وسوريا.

إقرأ أيضاً: عن مشروع الفدرالية المنجَز…

هل يكفي هذا التبرير كي يتمّ إعفاء أبطال الترسيم من مسؤوليّاتهم عن خيبة الأمل التي مُنِي بها اللبنانيون خلال أقلّ من شهرين؟ وهي خيبة مصحوبة بتردّي أحوالهم المعيشية في الزمن الأميركي الذي أعاد إلى الواجهة أيام سفر برلك في العهد العثماني. ففي زمن انهيار السلطنة العثمانية، كاد جبل لبنان أن يخلو من سكّانه الذين إمّا هاموا على وجوههم مهاجرين في أصقاع الدنيا، وإمّا انتهوا إلى الموت جوعاً. وفي الزمن الأميركي، يشهد لبنان هجرة سكانية غير مسبوقة. فهل علينا انتظار أن نشاهد الناس يتساقطون جوعاً أو يخرجون إلى العصيان والعنف على قاعدة: “عجِبتُ لِمْن لا يجِدُ قُوتَ يوْمِهِ، كيْفَ لا يْخرِجُ على النّاسِ شاهِراً سيْفَه”؟

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…