انتخابات الإفتاء: ديمقراطية السنّة… وحروب “الموارنة”

لعلّ أبرز ما أفرزته انتخابات الإفتاء لدى الطائفة السنيّة، هو هذا المشهد “الديمقراطي”، الذي مرّ بسلاسة من عكار وطرابلس، إلى حاصبيا، مروراً ببيروت والبقاع والجنوب. استحقاق “ديمقراطي” يصلح لأن يكون درساً لكلّ الطوائف والمذاهب الأخرى، خصوصاً الموارنة، الذين يخوضون “حروباً” تكلّف اللبنانيين أعماراً ودماءً وسنواتٍ، قبل أن يتفقوا على “خوض” الانتخابات الرئاسية، مرّة كلّ 6 سنوات، ومنذ عقدين مرّة كلّ 7 أو 8 سنوات.

يكون السؤال هنا: كيف يمكن “تسنين” الاستحقاقات الانتخابية في لبنان، قبل سؤال: “أيّ مفتيّ نريد”؟ السؤال الذي كان مطروحاً على الهيئات الناخبة في انتخابات الإفتاء شمالاً، وفق المعادلة التالية:

هل نريد مفتيّاً مسيّساً؟ أيّ رجل دين يصدح بالمواقف السياسية التي تعبّر عن التوجّه الغالب عند عموم أهل السنّة؟ أم مفتيّاً هادئاً يكون على مسافة واحدة من الجميع، ويكون اهتمامه منصبّاً على وحدة الصفّ السنّي؟

انتخابات الإفتاء شمالاً أسبغت عليها مناخات غير سويّة. فقد أصرّ إعلام حزب الله على تصويرها باعتبارها معركة نفوذ سعودية بين معارضيها ومؤيّديها، وهو أمر غير صحيح البتّة

بالتالي لم تكن انتخابات الإفتاء للمفاضلة بين عالم وآخر – فكلّ المرشحين من خيرة العلماء – بقدْر ما كانت استفتاءً على الخيار الذي انتهجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان بعد انسحاب الرئيس سعد الحريري من الميدان السياسي، وانكشاف ضعف الحضور السنّي في المعادلة الوطنية. فقد حوّل المفتي دريان دار الفتوى إلى “خيمة” تجمع تحت سقفها كلّ السياسيّين السنّة على اختلاف توجّهاتهم السياسية، بخطاب وطنيّ جامع يرتكز على حماية الثوابت الوطنية وفي طليعتها اتّفاق الطائف.

أتت نتائج هذا الاستفتاء لتؤكّد صوابية خيار دريان، فمنحته تفويضاً ومباركة سنيّة عارمة، تمثّلت بفوز المرشّحين الأقوياء المعتدلين، وبخاصّة في طرابلس وعكّار، اللتين تمثّلان العمق الحيوي للسنّة في لبنان. وخير معبّر عن ذلك هو حجم الهيئة الناخبة فيهما بالمقارنة مع باقي الدوائر الانتخابية (172 في عكّار، و138 في طرابلس).

تجديد البيعة

المشهدية العامة للعملية الانتخابية شمالاً أوحت بأنّها كانت بمثابة “تجديد البيعة” للشيخ محمد طارق إمام في طرابلس، والشيخ زيد بكّار زكريا في عكّار. فالأوّل كان قائماً بأعمال مفتي طرابلس والشمال منذ حزيران 2020، إلى جانب كونه أمين الفتوى. أمّا الثاني فقد كان آخر مفتيّ لعكّار ومع انتهاء ولايته شغر المنصب.

في طرابلس، كانت المؤشّرات حتّى عصر يوم الجمعة الفائت تشير الى معركة انتخابية حامية بين إمام ومنافسه الرئيس الشيخ بلال بارودي، في ظلّ دعم الرئيس نجيب ميقاتي لترشيح بارودي، وامتلاكه قدرة واسعة على التأثير في الهيئة الناخبة نظراً للارتباط الوظيفي لأعضائها برئاسة الحكومة، ما بين موظّفين رسميّين ورجال دين ورؤساء بلديّات. وكان “دروايش” ميقاتي يقومون بالتسويق لبارودي بنشاط هائل على وسائل التواصل الاجتماعي.

بيد أنّ رئيس الحكومة بدّل موقفه مساء الجمعة ودعم ترشيح إمام. وحسب المعلومات فهناك من همس في أذنه بأنّ مواقف بارودي السياسية ستكون عبئاً عليه، وأنّ دعم إمام أكثر إفادة له ولمقام رئاسة الحكومة.

بذلك حُسمت المعركة قبل أن تبدأ، ولا سيّما أنّ إمام كان يحظى بدعم سياسي وعلمائي واسع في طرابلس والضنية والمنية، انطلاقاً من تجربته في مقام الإفتاء والتي أثبت فيها أنّه على مسافة واحدة من الجميع قولاً وعملاً. أولى نتائج هذا التوافق غير المعلن كان انسحاب الشيخ سمير كمال الدين يوم السبت، وهو أحد المرشّحين البارزين المفضّل عند النائب فيصل كرامي. كما تجلّى أيضاً في النتائج، حيث حاز إمام على ثقة أكثرية ثلثيْ الهيئة الناخبة (66%).

عكست انتخابات الإفتاء مدى حيوية المؤسّسة الدينية. فليس تفصيلاً أنْ نشهد مثل هذا التنافس بين عدّة مرشّحين أقوياء في كلّ دائرة في ظلّ ضعف الحضور السياسي السنّي، وتحت تأثير أزمة اقتصادية خانقة تركت آثارها على دار الفتوى وعلمائها وأبنائها

مناخات غير سويّة

انتخابات الإفتاء شمالاً أسبغت عليها مناخات غير سويّة. فقد أصرّ إعلام حزب الله على تصويرها باعتبارها معركة نفوذ سعودية بين معارضيها ومؤيّديها، وهو أمر غير صحيح.

فعدا عن كون المملكة على مسافة واحدة من الجميع، وأنّ سفيرها وليد البخاري غادر بيروت إلى الريّاض في إجازة قبل احتدام السباق الانتخابي، لا يمكن لأيّ مفتىٍ، مهما علا وزنه وعلمه وحضوره، أن يخرج عن الثوابت التاريخية لدار الفتوى، وفي طليعتها الانتماء إلى العمق العربي والإسلامي “الطبيعي” من المحيط إلى الخليج، وأنّ السعودية هي قِبلة المسلمين الدينية والسياسية. وتجربة مفتي الجمهورية الأسبق محمد رشيد قبّاني أبلغ برهان على ذلك. زد عليها النشاط المفرط لـ”الفايسبوكيّين” و”التويتريّين” و”الواتسابيّين” الذين جعلوا من انتخابات الإفتاء معركة “داحس والغبراء”، أو كأنّها إحدى صور الانقسام بين أبناء “قبيلة قريش” من “بني العبّاس” و”بني أميّة”.

المؤسّسة الدينية: تمرض ولا تموت

هذه المناخات أرخت بثقلها على انتخابات الإفتاء في عكّار، والتي كانت محصورة بشكل رئيس بين الشيخ زيد بكّار زكريا، والقاضي أسامة الرفاعي. فتحوّلت إلى معركة بين الفكر الصوفي وذلك السلفي حيناً، وبين أبناء سهل عكّار وأبناء جبله حيناً آخر، وبين عائلتيْ زكريا والرفاعي أحياناً أخرى.

هذا كان له دور بارز في فشل كلّ المساعي التوافقية على مرشّح ثالث هو الشيخ زيد الكيلاني، ما حدا به إلى الانسحاب. وقد عكست النتائج مستوى التنافس القوي، إذْ حاز الشيخ زيد بكّار زكريا على 96 صوتاً، مقابل 66 صوتاً للقاضي أسامة الرفاعي. أيّ أنّ الأول حصل على تأييد ما نسبته 45 % من الهيئة الناخبة.

ما يجدر التوقّف عنده هو أنّ المتنافسين أنفسهم، سواء في طرابلس أو عكّار، دخلوا الانتخابات بروح وديّة، متوخّين في ذلك تقديم الصورة المنتظرة لرجال الدين وأهل العلم. وهذا ما يتناقض بشكل صارخ مع كلّ الأجواء غير الوديّة المصطنعة بين أنصارهم. والصورة الأشد دلالة على ذلك تمثّلت بسجود الشيخ زيد بكّار زكريا شكراً لله بعد فوزه، مقابل إطلاق البعض القذائف احتفالاً بالنصر.

إقرأ أيضاً: انتخابات الإفتاء: السُّنّة أهل الاعتدال.. تحيّة للمفتي دريان

عموماً عكست انتخابات الإفتاء مدى حيوية المؤسّسة الدينية. فليس تفصيلاً أنْ نشهد مثل هذا التنافس بين عدّة مرشّحين أقوياء في كلّ دائرة في ظلّ ضعف الحضور السياسي السنّي، وتحت تأثير أزمة اقتصادية خانقة تركت آثارها على دار الفتوى وعلمائها وأبنائها. وقد أظهرت الدار مرّة جديدة أنّها قد تمرض لكنّها لا تموت.

إقرأ أيضاً

إيران وإسرائيل: نتّجه لحرب استنزاف طويلة بالمنطقة

بين ردّ إيران الضخم على قصف القنصلية الإيرانية في سوريا، وردّ إسرائيلي محدود على الردّ الإيراني. تتّجه المنطقة كلّها، بحسب مصادر مطّلعة على أجواء قوى…

ليلة قصف إسرائيل: هل تقرّر أميركا إسقاط نظام إيران؟

بين عامَي 2023 و2024 وقعت أحداث ستشكّل تحوّلات كبيرة في تحالفات المنطقة وخريطتها الجيوسياسية. منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023) وتنفيذ حماس عملية “طوفان الأقصى”….

تركيا على خطّ الوساطة.. إبراهيم كالن في بيروت؟

بعد أشهر من المواقف “الضّبابيّة”، دخَلَت تركيا على خطّ الوساطة لحلّ أزمة تبادل الأسرى بين حركة حماس وإسرائيل. تغيّرت لهجة الرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان،…

باسيل في جزّين: برّي حليف انتخابات 2026؟

يسرّع رئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل خطواته في اتّجاه كسر الحواجز مع خصمه “السابق” الرئيس نبيه بري. زيارة باسيل لجزّين أمس ليست تفصيلاً،…