مونديال العرب: نافذة على شعوبٍ وألوانٍ ولغاتٍ وأزياء

ربّما يكون للمونديال ولعبة كرة القدم بعضٌ من فضيلة إدراكي لحرّيتي، ووعيي اللاحق لها. حرّية صنوها العناد الذي وسم سلوكي الطفوليّ ورافق التكوينات الأولى لمراهقتي.

الزمان: مونديال 1986.

المكان: غرفة معيشة بمنزلنا في وادي دوعن بحضرموت.

ما إن صفّر حَكَم الملعب معلناً انتهاء المباراة الأخيرة بفوز الأرجنتين على ألمانيا، حتى قفزت أختي باكية صارخة تكيل لي اللكمات والركلات. فانتفضت أبادلها بمثلها. ونشبت المعركة بيننا: مثل المجانين أخذنا نقطّع صور اللاعبين، تلك التي ألصقناها على جدران غرفتنا البيتية، فانتزعنا معها الطلاء حتى بدت الغرفة مشوّهة مبقّعة. وعلى صوت شجارنا هرعت أمي مندفعة هلعة مهدِّدة وراحت تفكّ أصابع كلّ منّا التي تشبّثت بخصلات شعر الأخرى.

كانت عدن ما زالت تلعق جراح 13 كانون الثاني 1986 الدموية النازفة التي نتجت عن الاقتتال الأعنف بين الإخوة “الرفاق” في الحزب الاشتراكي الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. كنت وأخواتي لا نفقه في السياسة ولا نعلم عن جماعاتها المتقاتلة وأسباب اقتتالها إلّا ما حذّرتنا منه أمّنا، وهو ألّا نفتح أفواهنا بأيّ حديث نسمعه يدور بين الكبار. فاسم عائلتنا يشتبك مع اسم قريب لنا كان يومئذٍ في أعلى منصب في دولة اليمن الجنوبي.

منذ إعلان فوز دولة قطر بتنظيم المونديال إلى لحظة افتتاحه وبدء مبارياته في عاصمتها الدوحة، نشأ فضاء مشهدي يتنافس روّاده في عرض لافتاتهم وشعاراتهم ومكنونات أنفسهم وإشهارها صاخبة

نحن القادمين من وادي هزيم الرعد وهدير السيل (دوعن في حضرموت) لم نكن نعلم شيئاً عن الاقتتال إلّا كيف نتّقي قذائفه المميتة بناءً على تعليمات أمّي التي تقتضي أن نهرول خلفها إلى الطبقة الأرضية من منزلنا كلّما ارتجّت حيطانه مع دويّ انفجارات القذائف. وسط هذا الجوّ كنت وأختي التي تليني عمراً غير حافلتَين بما يجري، ورحنا نناوش أذيال مراهقتنا المبكرة، فنتحزّب لمغنّين وممثّلين ولاعبي كرة قدم نجوم، فنعلّق صورهم على خزانة ملابسنا وجدران غرفتنا. ننتقيهم وفقاً لدرجات وسامتهم، أو تقليداً لإجماع ذائقة أقراننا عليهم وتعلّقهم المراهق بهم. وكانت أمّي تشجّع سلوكنا هذا، لعلّ هوانا الجديد يُخرجنا من جوّ الرعب الذي عشناه في حرب كانون الثاني الأخويّة في جنوبنا اليمني.

كانت أختي تشجّع فريق ألمانيا وما تزال إلى يومنا هذا. وكنت أشجّع البرازيل تعلّقاً أميناً منّي بمطالع ذكرياتي الأولى في مدينة عدن، حينما كنت أسمع والدي يصرخ باسمهم بصوت نادر في بهجته. وحدث أن خرج فريقي المفضّل من ربع النهائي. وكان لا بدّ أن أظلّ على حماستي الممزوجة بشعور الحرّية والتمرّد منذ اخترت كرة القدم لعبةً لطفولتي تميّزني عن قريناتي الطفلات، عازفةً عن لعبهنّ بعرائس أنفر منها ومن أساليب اللعب بها مستكيناتٍ مستجيباتٍ لِما اختير للبنات وما حُرِّم عليهنّ. لذا عشقت صخب لعبة كرة القدم مع الفتيان. وكانت تمنحني شعوراً حرّاً… وهكذا دبّ الشقاق والعراك بيني وبين أختي. وقد يكون شغفي ذاك بكرة القدم ومونديالها كلّ 4 سنوات، أسّس لتعلّقي وشغفي بما تبلور لاحقاً في حياتي وحدّد مساري ومصيري: الكتابة التي تبعها أو لازمها انخراطٌ في العمل المدني والحقوقي واتّخاذ مواقف لها طابع سياسي دفعاني إلى المشاركة في الاحتجاجات والتظاهرات اليمنية في الربيع اليمني 2011، قبل تحوُّله شتاءً دمويّاً قاسياً.

 

المونديال والحريم والموالد

لكأس العالم بصمة أخرى أبعد في ذاكرتي: في منتصف عام 1982 حطّت قافلتنا العائلية الصغيرة رحالها في مدينة عدن، بعدما قرّر والدي الانتقال من قريتنا البعيدة في وادي حضرموت. وبعد إفطار عدنيّ مدنيّ كانت تنتظرني دهشتان: مسلسل كرتون للأطفال يتميّز بألوانه وموسيقاه وأصوات شخصيّاته، ومباريات كأس العالم في مونديال 1982 الذي تزامن وصولنا مع افتتاح مبارياته المنقولة حيّة على شاشة التلفزيون. وكنّا، نحن نساء العائلة، ننحشر في المطبخ لتنظيف مخلّفات الإفطار، ونبقى متحفّزات لخدمة ذكورها، فيما هم يمدّون أرجلهم في غرفة المعيشة منصرفين لمشاهدة المونديال على شاشة التلفزيون. وكانت بين حين وآخر تتعالى صرخاتهم ودمدماتهم تعليقاً على وقائع المباريات. ولمّا كنت طفلة وغير ناضجة بعد، سُمح لي بالجلوس بين الذكور، متنقّلة بين ذلك التقسيم غير العادل: مهمّات النساء المنزلية، ومتعة الرجال في مشاهدة المباريات. ورحت أتفاعل مع صراخ أبي بلا غضب، كأنّني للمرّة الأولى أراه منتشياً تلك النشوة تعتريه الحماسة مبتسماً مبتهجاً فيما هو يردّد كلمة: البرازيل البرازيل. فأخذت مثله أصرخ وأشجّع الأصفر بتبعيّة يخالطها تملُّق طفولي، لعلّي أحظى برضاه، فيتركني في غمرة اشتعال حماسته أنسلّ من ربقة أفكاره التي لا ترى في الفتاة إلا مشروعاً للتزويج ولو كانت قاصرة، وتعتبر أنّ عليها التزام المنزل استعداداً لمصائر “الحريم”. وهكذا صرت أخرج إلى الشارع وألعب مع الذكور من أطفال الحيّ الذين كانوا يشجّعون فرق المونديال، فينقسمون جماعات وتنشب بينهم معارك عنيفة، لا تخلو من شجّ رأس أحدهم أو أكثر.

مذّاك علمت أنّ للكرة عرساً عالمياً يُقام كلّ أربع سنوات. وفي عدن أصبح للمونديال طقس آخر راح يختلط بالموالد وزيارات الأولياء والأضرحة. لقد شرّع المونديال لخيالي نافذة أطلّ منها على شعوب وألوان ولغات وأزياء وموسيقى وغناء ورقصات، فكانت اختلاجات عنيفة تدبّ في أعصابي، ويصيبني ولهٌ وانغماس كانغماس الدراويش وانجذابهم في زيارات المقامات والأضرحة وفي الموالد.

يعصف الجذل اليوم على امتداد الكرة الأرضية بمشاهدي التلفزيون المعلّقة أعينهم بكرةٍ تتقاذفها أرجل منتخبات المونديال في كرنفال عالمي على ملاعب العاصمة القطرية

السحر يُعتق من اليأس

هل ينطوي سحر المونديال، بمنتخباته ومبارياته ونجومه، على شيء من ذاك السحر الذي يخالط الطقوس والشعائر القديمة التي كانت تُعتِق الناس من تناقضاتهم وانقساماتهم وآلامهم، فتوحّد بينهم وتطلق تضامنهم ومشاعرهم في أوقات ومناسبات تجمعهم؟ أما نزال نطلب من خلال السحر والوله أن نتحرّر ممّا يضجّ به العالم من تناقضات وانقسامات ومآسٍ؟

مهما يكن من أمر الإجابة عن هذه الأسئلة، يبدو أنّ في سحر مونديال قطر 2022 ما يشكّل بارقة أمل عربية نضرة، ليس على صعيد المونديال الكروي فحسب، بل أيضاً على صعيد احتمال الخروج من اليأس السياسي الذي تعيشه جماهير البلدان العربية. ذلك أنّ السياسة تحتاج إلى شيء من سحر انتصارات، ولو صغيرة، على طريق طويلة وشاقّة.

يعصف الجذل اليوم على امتداد الكرة الأرضية بمشاهدي التلفزيون المعلّقة أعينهم بكرةٍ تتقاذفها أرجل منتخبات المونديال في كرنفال عالمي على ملاعب العاصمة القطرية. وها هو الفرح يعصف بالعرب في كلّ مكان، مقيمين في بلدانهم ومهاجرين في جهات المعمورة كلّها، فيما هم متسمّرون أمام شاشات تلفزيونية أو حاضرون في ملاعب قطر.

 

السعوديّة والمغرب توحّدان العرب

صرخ العرب مصفّقين للمنتخب السعودي مع كلّ هدف في مرمى فريق الأرجنتين. وعلى وسائط التواصل انبعث الفرح كلمات من قلوب عربية في أقاصي الجزيرة العربية في وادي دوعن بحضرموت، إلى أقاصي قرى جبال الأطلس المغربية، وصولاً إلى المغاربة في إسبانيا. لقد فاز منتخب المغرب على منتخب إسبانيا. أفئدة ملايين العرب تقافزت مع تقافز أقدام المنتخب المغربي على إيقاع صعوده إلى الدور الـ 16 في المونديال. وهذا أنبت لأحلام العرب المهيضة منذ عشرات السنين أجنحة في الكرنفال القطري الاستثنائي في نهايات سنة 2022، حسب وصف الصحافة العربية والعالمية. ذلك أنّ منتخبات عربية سجّلت أبرز مشهديّات النسخة الحاضرة من كأس العالم، مؤكّدة أنّ للشعوب العربية قلباً كبيراً يجمعها، وتستحقّ أنظمة ودولاً تعكس نبضات ذلك القلب. 

منذ إعلان فوز دولة قطر بتنظيم المونديال إلى لحظة افتتاحه وبدء مبارياته في عاصمتها الدوحة، نشأ فضاء مشهدي يتنافس روّاده في عرض لافتاتهم وشعاراتهم ومكنونات أنفسهم وإشهارها صاخبة.

حضرت خلف الكواليس السياسة بمشاعرها وشعاراتها الجماهيرية ومناكفاتها: الفريق الإيراني يصمت عن ترداد نشيد بلاده تضامناً مع النساء الإيرانيّات واحتجاجات الشعب الإيراني ضدّ نظام الملالي الديكتاتوري. رأينا مشجّعات إيرانيات سافرات بكامل زينتهنّ للقول لذاك النظام التعسّفي: “نحن حرّات لا سلطان لكم علينا ولن تكسرونا”. واختتم إيرانيون رسائل تضامنهم ونكايتهم الأعنف بالاحتفال بفوز الفريق الأميركي على منتخب بلدهم.

رأينا وزيرة الداخلية الألمانية في مشهد لا يلتزم بقواعد الآخرين الأخلاقية ولا يحترمها: شعار المثليّين على معصمها. وهذا ما لم يستطع إشهاره منتخب بلدها، فاستخدمت الوزيرة ما تملكه من حصانة سياسية لإشهار الشعار عينه.

أمّا قضية فلسطين الأبرز في وجدان الشعوب العربية كلّها فحضرت بالأعلام الفلسطينية التي حُملت على أكتاف المشجّعين العرب وتوشّحت بها رؤوسهم ورفعها لاعبون من منتخبات عربية متجاوزين الحدود ودولهم وأنظمتهم السياسية. وحضر النفور من إسرائيل لدى المشجّعين العرب الذين رفضوا التجاوب مع مراسلي قنوات إعلام إسرائيلية، والظهور في وسائلهم الإعلامية. وتجنّب المشجّعون العرب الاختلاط بالمشجّعين الإسرائيليين ما إن اكتشفوا جنسيّتهم.

إقرأ أيضاً: مونديال قطر: فلسطين حرّة واسرائيل منبوذة

شاهدنا أيضاً لمحة من وئام عربي: وليّ العهد السعودي وأمير قطر يتحاضنان فرحاً وابتهاجاً بفوز الفريق السعودي.

أمّا لافتة الدين التي حاول بها “الإخوان المسلمون”، وهم الفصيل الأبرز في جماعات الإسلام السياسي المتمركزة في قطر، “أخونة” المونديال، فكانت الأكثر إثارة للجدل والسخرية، حتى إنّ بعض تغريدات روّاد مواقع التواصل اعتبرت أنّ لافتات الإخوان تمثّل “منافسة بين الحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية”.

 

* كاتبة وباحثة وناشطة حقوقيّة يمنيّة من جنوب اليمن – حضرموت.

 لمتابعة الكاتب على تويتر: hudaalattas27@

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…