“الكورة” بتتكلّم عربي

شبعنا هزائم، أتخمتنا الانكسارات. بكينا على سقوط بغداد وهدم مسجد خالد في حمص، وتهجير أهل الشام. تقطّعت قلوبنا عندما استُبيحت صنعاء، وفُجّرت بيروت فباتت مدينة للغربان. بعد كلّ ذلك بتنا نبحث عن الفرح، نبحث عن انتصار أيّ انتصار، حتى وإن كان بصحن تبّولة يدخل كتاب غينيس..

بعد كلّ ذلك أطمئنكم يا سادة، العرب بخير. صدّقوني سمعت صيحاتهم وأهازيجهم، رأيت راياتهم خفّاقة يلوّح بها الشباب والصبايا في ملاعب قطر من لوسيل حتى استاد البيت وما بينهما استاد 974.

رأيتهم يحتفلون، قطريّون ومصريّون وإماراتيّون ومغاربة وسودانيّون وعراقيّون، بفوز المنتخب السعودي على النجم العالمي ليونيل ميسي ورفاقه الأرجنتينيّين. شاهدتهم يرقصون فرحاً، لبنانيّون وسوريّون وصوماليّون ويمنيّون وأردنيّون، عندما انتصر منتخب الياسمين، أبناء تونس، على ديوك فرنسا أبطال العالم حاملي اللقب السابق العظيم. شاهدتهم بأمّ العين في مقاهي بيروت والقاهرة ودمشق وأبو ظبي وعمّان يطلقون أبواق زماميرهم احتفالاً بكلّ هدف عربي، بفوز المغرب على منتخب إسبانيا، بأسد الأطلس الذي هزم ثور مدريد. شاهدت نسوة بعمر والدتي على شاشات التلفزة يتحدّثن مبتهجات بفوز السعودية والمغرب وتونس ونجاح قطر بالتنظيم. يبدأن حديثهنّ بجملة واحدة موحّدة لا بديل عنها، يقلن: “مبروك للعرب هذا الانتصار الكبير”.

نحن العرب بالخيار أن نكون في استاد 974 الذي صُنع من الحاويات وستفكّكه قطر بعد المونديال، أو أن نكون في استاد البيت الذي صُمّم كخيمة عربية. كم نحن العرب بحاجة إلى بيت أو خيمة تجمعنا لنطمئنّ أنّ عودتنا ليست نوبة بل هي قدر وَعدنا به ربّ العالمين

نعم يا سادة، العرب بخير، على المدرّجات بقطر وفي المقاهي وفي سوق واقف الجميل. “الكورة” بتتكلّم عربي بالإذن من سيّد مكّاوي هذا المبدع الكبير، حين قال “الأرض بتتكلّم عربي”، فما بالنا بالأرض اليوم، فلا جيوش لدينا لنستعيدها ولا وجود لصلاح الدين. إذاً لننتقل إلى “الكورة” ما دامت تجمعنا وتوحّد صفوفنا وتحقّق لنا الانتصارات، ونحن عطشى للانتصارات، وهذا كلّه عجز عنه رجال السياسة ومعهم رجال الدين.

بلاد العُربِ أوطاني

جميلة هي العروبة عندما نحتفل بها. ملعونة عندما تخذلنا أو يخذل بعضنا بعضاً، عندما نفتقد معتصماً نادته امرأة فلبّى نداءها من دون تردّد أو خوف أو كسل: “نحن لسنا بأمّة المساكين”.

تودّعنا قطر بعد أيام في 18 كانون الأول موعد المباراة النهائية واختتام المونديال، وسنعود جميعاً إلى بلداننا ومدننا وأزقّتنا. سنعود إلى الصحراء الغربية مستأنفين صراعنا عليها، وإلى طرابلس الغرب والفوضى التي تعيشها، وإلى بغداد وهيمنة الميليشيات فيها. سنعود إلى بيروت حيث لا ماء ولا كهرباء، وإلى صنعاء المحتلّة المسلوبة منها الحياة. سنعود إلى دمشق باحثين عن المفقودين في المقابر الجماعية والمعتقلات، إلى القدس حيث الحجر يشبه السكّين. لن نلوّح بالرايات بعد المونديال، ولن نستعيد النشيد وسيعود البارودي والأخوان فليفل إلى قبورهم، إلى عالم الأموات.

سنعود نحن العرب كلّ العرب حاملين ذكرى تَجْمَعُنا كعرب في المونديال، ذكرى احتفالنا معاً كعرب بالرايات والأهازيج. لكن سنعود ننظر إلى الخلف عسى أن نستعيد تلك اللحظات من التاريخ. اعتدنا التحسّر دائماً على التاريخ. الخوف أن نعود صفر اليدين كما حصل مع الأعرابي الذي عاد بـ”خُفّي حنين”، وما أدراكم ما “خُفّا حنين”.

العرب بخير، على المدرّجات بقطر وفي المقاهي وفي سوق واقف الجميل. “الكورة” بتتكلّم عربي بالإذن من سيّد مكّاوي، حين قال “الأرض بتتكلّم عربي”

تقول الحكاية إنّ رجلاً يدعى حُنين يعمل صانعاً للأحذية في العراق، مرّ أمام دكّانه في يوم من الأيام أعرابيّ يركب على بعير، فدخل إلى دكّان حُنينٍ ناظراً إلى الأحذية التي يصنعها ومدقّقاً فيها، فأعجبه أحد هذه الأحذية فسأل عن السعر وبدأ بالجدال والمساومة على السعر كأنّه يريد أن يشتريه. وبعد طول جدال أخذ الكثير من وقت حُنين اتّفق معه على سعر، فإذا بالأعرابي يترك الدكّان من دون أن يأخذ الحذاء أو يشتريه ولا أن يُعير حُنين أيّ اهتمام، فسبّب هذا التصرّف لحُنين الغضب لأنّ هذا الأعرابي أخذ منه الكثير من الوقت وعطّله عن عمله، ولذلك أراد أن ينتقم من تصرّف الأعرابي، فلحق به حاملاً خُفّين وسلك طريقاً جانبيّاً أسرع من الطريق الذي سلكه الأعرابي فأصبح أمامه بمسافةٍ، فوضع أحد الخفّين على الطريق، وعلى بعد مسافة كافية منه وضع الخفّ الثاني واختبأ في مكانٍ يراقب منه الأعرابي حين وصوله إلى هذه المنطقة. وعندما وصل الأعرابي ووجد الحذاء، قال ما أشبهه بخفّي حُنين، لكنّ هذا حذاء واحد ولو كان الثاني معه لأخذتهما معاً، فتركه وسار في طريقه، وبعد مسافةٍ وجد الحذاء الثاني، فقال كأنّ هذا وذاك خفّا حُنين، فأخذ الثاني ورجع إلى الأول كي يلتقطه تاركاً دابّته في مكان الحذاء الثاني، وهنا كان حُنين يتربّص به، فلمّا ترك دابّته ورجع إلى الحذاء الأول، أخذ حنين دابّته وهرب بها، وعندما عاد الأعرابي إلى مكان الدابّة لم يجدها فعاد إلى أهله فارغ اليدين، فاستغرب أهل الحيّ عودته راجلاً، ولمّا علموا بما حلّ به، قال أحدهم  “عاد بخفّي حنين”.

إقرأ أيضاً: مونديال قطر: فلسطين حرّة واسرائيل منبوذة

نحن العرب بالخيار بين أن نكون في استاد 974 الذي صُنع من الحاويات وستفكّكه قطر بعد المونديال، أو أن نكون في استاد البيت الذي صُمّم كخيمة عربية. كم نحن العرب بحاجة إلى بيت أو خيمة تجمعنا لنطمئنّ إلى أنّ عودتنا ليست نوبة بل هي قدر وَعدنا به ربّ العالمين.

إقرأ أيضاً

باسيل بعد جعجع: دفع الثمن مرّتين!

ثمّة خصامٌ شديدٌ بلغَ أحياناً حدّ العداء الشرس، بين سمير جعجع وجبران باسيل، بصفة الأخير وريثاً لميشال عون. مع أنّه لا دمَ مباشراً بين الاثنين….

يحيى جابر يفتح جرح جمّول: بيّي… حارب وانهزَم بِعَنجَر

في حين يبحث الحزب عن شرعية وطنية بين رميش والهبّارية، ليقول إنّ إسرائيل تقصف كلّ الطوائف… يفتح يحيى جابر جرح اغتيال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية…

أزمة المعارضة اللبنانية… السياسة دون أهلها

في لبنان معارضات كثيرة. معارضات لا تجتمع تحت سقف أو تتوحّد حول هدف معيّن أو مطلب محدّد. على الرغم من ذلك تنادي كلّها بالأهداف وبالمطالب…

اجتياح رفح: الخلاف “التكتيكي” بين بايدن ونتنياهو

واشنطن ترفع بطاقة صفراء في وجه إسرائيل. لكنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو مستمرّ في المناورة والمماطلة في المفاوضات والتهديد بمواصلة الحرب واجتياح رفح. يراهن…