الحرب الصينية الأميركية (2): بكين رأسماليّة أو شيوعيّة؟

تثير جملة أسئلة الرسائل المتطايرة من المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني. تلك التي أعلنت التمسّك بالنموذج الصيني “الفريد” القائم على الجمع بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، أي “قبضة شيوعية من حديد” داخليّاً و”طريق رأسمالية من حرير” خارجيّاً. أسئلة بشأن تداعيات الحرب الباردة “المشتعلة” بين أميركا والصين على الاقتصاد العالمي والتحالفات الدولية، وكذلك تداعياتها على المنطقة العربية باعتبارها ميداناً رئيسياً لهذه الحرب بحكم دورها ومواردها وموقعها الجيوسياسي.

في الجزء الأوّل من هذه السلسلة، كانت إشارة إلى أنّ حالة “المساكنة الهانئة” بين النظامين الرأسمالي والشيوعي قد انتهت وحلّت محلّها “المساكنة الصاخبة” في ظلّ حرب باردة قد تتحوّل فاترة وبالوكالة في بعض الحالات والدول.

رمزيّة يانان أنّها المنطقة التي أقام فيها ماو تسي تونغ وقادة الحزب الشيوعي خلال الحرب الأهلية الأولى وخلال الحرب مع اليابان، وهي المكان الذي شهد عقد المؤتمر السابع للحزب الذي توّج هيمنة ماو على الحزب الشيوعي بعد صراع مرير مع الخصوم

ماذا تريد أميركا من الصين؟

تبدو واضحة استحالة قبول أميركا باستمرار الوضع على حاله، وهي تسعى إلى محاصرة الصين وإعاقة نموّها وعزلها لوضعها بالمحصّلة أمام خيارين.

-الأوّل: دفعها إلى تبنّي النظام الشيوعي والخروج التدريجي من النظام الرأسمالي الدولي، والتقوقع داخل “سور الشيوعية العظيم” إلى جانب دول “محور جديد للشرّ”، يضمّ على سبيل المثال كوريا الشمالية وكوبا ومنغوليا وفنزويلا، وإيران إذا لم يتمّ تغيير النظام فيها أو “تحسِّن سلوكها” فتتراجع عن شعارات تصدير الثورة و”الشيطان الأكبر”. وربّما يضمّ الحلف روسيا أيضاً إذا اختار “الزعيم بوتين” بعد انتصاره في مغامرته الأوكرانية “اللجوء إلى الحضن” الصيني وليس الأميركي. ويمثّل هذا الخيار استعادة بائسة لتجربة الاتحاد السوفييتي، وهو بالتالي مرفوض من الصين لأنّه أقرب إلى الانتحار.

-الثاني يقضي بدفع الصين إلى تبنّي النظام الرأسمالي بالكامل بما يتطلّبه ذلك من اعتماد وترسيخ نظم الحوكمة والشفافية في الاقتصاد وقطاعات الأعمال، وخلق أسواق ماليّة فعّالة ومنظّمة، وتحرير كامل لسعر صرف اليوان، إضافة إلى اعتماد الديمقراطية في الحياة السياسية. وذلك لتدخل الصين بهذه الحال في منافسة عادلة مع أميركا وبقيّة الدول الغربية، متحمّلة الغنم والغرم بدلاً من الغنم فقط كما كانت الحال خلال العقود الأربعة الماضية. الأمر الذي يسمح بالاعتراف بحقّ الصين باحتلال مقعد دائم في “مجلس إدارة” النظام الدولي. وهذا خيار أشبه بالانتحار بالنسبة إلى الصين، لأنّه يعني انتصاراً كاملاً لأميركا يجعلها تتربّع على عرش النظام الرأسمالي المُعاد “تجديد شبابه” بقوّة الاقتصاد الصيني وضخامته. ويعني أيضاً هزيمة كاملة للصين، مع ما يحمله ذلك من مخاطر نشوب صراعات داخلية بين أجنحة وقيادات الحزب الشيوعي.

كيف تتطوّر الأمور؟

تقتضي سلامة التحليل مرّةً ثانيةً التروّي في إطلاق الأحكام والاستنتاجات، والاكتفاء برصد وربط الوقائع لاستقراء التطوّرات. ويبدو أنّ المعطيات والمؤشّرات المتلاحقة منذ بداية عهد شي جين بينغ تؤكّد أنّ الخيار الصيني هو تثبيت النموذج “الفريد”، أو “الملتبس” كما تراه أميركا، وخوض غمار الحرب دفاعاً عنه، وقد أُعدّت العدّة داخلياً وخارجياً لذلك.

داخلياً: قبضة شيوعيّة من حديد

في الجزء الأوّل من هذه السلسلة ذكرنا أنّ الرئيس شي جين بينغ بدأ منذ تولّيه منصب الأمين العامّ للحزب الشيوعي في 2012، ثمّ منصب رئيس الجمهورية، بتنفيذ ورشة شاملة لترسيخ قبضة الحزب الشيوعي على الدولة والمؤسّسات في السياسة والاقتصاد. وسعى إلى تطوير وتحديث النظرية “الماركسية اللينينية” على الطريقة الصينية، وإضافة بصمته عليها إلى جانب إضافات ماو تسي تونغ ودينغ شياو بينغ. وهو ما تحقّق في المؤتمر الـ 20 للحزب: تعديل الدستور لينصّ على ذلك صراحة. إضافة إلى تعديل آخر يسمح للرئيس شي بالتجديد لولاية ثالثة يُرجّح أن تكون مدى الحياة، ويسمح له أيضاً بفرض سيطرة مطلقة على الحزب والدولة والجيش، وإقصاء المنافسين ورموز الحقبة السابقة من كبار المسؤولين في الحزب والدولة والقطاع الخاص، وفي مقدَّمهم الرئيس السابق هاو جنتاو الذي أُخرج من قاعة المؤتمر بطريقة مهينة ومتعمَّدة أمام الكاميرات.

 الخيار الأميركي المطروح على الصين بتبنّي النظام الرأسمالي سقط بالضربة القاضية في قاعة المؤتمر الـ20 للحزب، وكذلك في “حلبة يانان”، مع عدم استبعاد أن يؤدّي ذلك إلى حدوث اضطرابات شعبية

نفتح مزدوجين للقول بقليل من التحفّظ إنّ حادثة إخراج الرئيس جنتاو من القاعة تمّ تصويرها وتسريبها عمداً، وإلّا كان تمّ منعه من المشاركة في الجلسة العلنيّة للمؤتمر من الأساس. فالرجل لم يبدُ مريضاً كما قيل، بل كان يهمّ بالاعتراض علناً على إبعاد أنصاره من اللجنة المركزية كما تردّد. لكنّه انصاع بعدما استجار بالرئيس بوضع يده على كتفه، الذي اكتفى بإيمائة من رأسه وكأنّه يقول: “أخرج، فتلك أوامري، وليشكّل خروجك رسالة رمزية للداخل والخارج بأنّ “مرحلة الإصلاحيين”، وأنت أبرز رموزها، قد انتهت”.

أتبع الرئيس شي رسالته هذه برسالة أكثر رمزية وأشدّ وضوحاً: قام بعد انتهاء المؤتمر باصطحاب اللجنة الدائمة للمكتب السياسي المنتخبة حديثاً، وهي أعلى هيئة سياسية في الصين، بزيارة يانان. ورمزيّة يانان أنّها المنطقة التي أقام فيها ماو تسي تونغ وقادة الحزب الشيوعي خلال الحرب الأهلية الأولى وخلال الحرب مع اليابان، وهي المكان الذي شهد عقد المؤتمر السابع للحزب الذي توّج هيمنة ماو على الحزب الشيوعي بعد صراع مرير مع الخصوم.

خارجياً: مضمون الرسالة لأميركا والغرب:

أوّلاً، إن الرئيس شي جين بينغ هو الحاكم المطلق للحزب الشيوعي، وبالتالي للصين، وإنّه ليس هناك زعامات منافسة وصراعات يمكن المراهنة عليها لهزّ الاستقرار.

ثانياً، من الآن وصاعداً يجب على أميركا والغرب تغيير قناعتهما بأنّ حديث القادة الصينيين عن الأيديولوجية يتعلّق بالسياسة الداخلية وبالحزب الشيوعي فقط، فقد بات يتعلّق بالسياسة الخارجية وبالعلاقات الدولية أيضاً. وقد أشار إلى ذلك بوضوح تامّ الخطاب الذي ألقاه شي في نهاية الزيارة قائلاً: “إنّها مناسبة للإعلان من موقع يانان الثوري عن العقيدة الراسخة للقيادة المركزية الجديدة المتمثّلة في توارث الجينات الحمراء وروح الكفاح من أجل تحقيق الأهداف والمهامّ المطروحة خلال المؤتمر الـ 20 للحزب”. وهذا ليبقى الصينيون “آلهة الرموز والرسائل الرمزية” منذ أيام كونفوشيوس، لمن يريد أن يقرأ..

“صينَنَة” الماركسيّة

بعيداً عن قراءة الرسائل المرمّزة مع أهمّيّتها، فإنّ الخبر اليقين قد يكون في قراءة “تقرير العمل” الذي يقدّمه الأمين العامّ للحزب الشيوعي في كلّ مؤتمر للحزب، فيحدّد الأسس والتوجّهات الأيديولوجيّة والسياسية والاقتصادية والمؤسّساتية على مدار السنوات الخمس المقبلة، أو قراءة دستور الحزب الشيوعي المعدّل في المؤتمر الـ20 والذي جاء فيه:

1- ينصّ الدستور الجديد حرفيّاً على أنّ “الحزب الشيوعي الصيني يتمسّك باتّخاذ الماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظريّة دنغ شياو بينغ، وفكر شي جين بينغ عن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، مرشداً”. ويُلاحَظ أنّها المرّة الأولى التي يتمّ فيها استخدام تعبير “فكر” بعد رحيل ماو تسي تونغ، وكذلك تعبير “الماركسية الجديدة ذات الخصائص الصينية”، الأمر الذي يؤكّد التحوّل الجذري في نهج الصين الأيديولوجيّ والسياسي، ليس بترسيخ النظام الشيوعي وحسب، بل بتطوير الماركسية على الطريقة الصينية، وربّما اعتمادها لاحقاً نموذجاً يُحتذى في دول أخرى. وهو ما عبّر عنه بوضوح الرئيس شي في خطاب يانان بالقول: “هذا الموقع الثوري شاهد عيان على مسيرة الحزب المجيدة في قيادة الثورة الصينية واستكشاف صيننة الماركسيّة وتكييفها مع العصر”.

يقول كيفن رود في مقال مهمّ نشرته مجلّة “فورين أفيرز”: “مع انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الـ19 في عام 2017، باتت الأيديولوجية هي التي توجّه السياسة وليس العكس”. ومع انتهاء المؤتمر الـ20، بات الرئيس شي جين الحاكم المطلق للصين، وهو “رجل أيديولوجي ومؤمن حقيقي بالماركسية ـ اللينينية”. ولا عجب في ذلك، فوالد الرئيس شي كان أحد كبار مسؤولي الحزب الشيوعي ونائب رئيس مجلس الدولة.

إقرأ أيضاً: الحرب الصينية الأميركية (1): نهاية المساكنة

2- يركّز التقرير على مفهومَيْ “القومية الصينية” و”الأمن القومي”، بديلَيْن عن مفهوم “فترة الفرصة الاستراتيجية” التي سادت في تقارير الحقبة السابقة. ويركّز أيضاً على الدعوة إلى إعادة اعتماد المفهوم الماركسي في إدارة الاقتصاد من خلال تولّي الدولة هذه المهمّة، والسعي إلى إعادة تأهيل الشركات الحكومية. وقد تمّ بالفعل ضخّ مئات مليارات الدولارات في صناديق استثمار مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص تستهدف العمل في القطاعات الرئيسية مثل التقنيّات المتقدّمة، وخاصة ذات الاستخدام المزدوج العسكري والمدني. ويشار هنا إلى أنّ الرئيس شي جين يرأس شخصيّاً لجنة تطوير الاندماج العسكري – المدني في الحزب الشيوعي.

الخلاصة: الخيار الأميركي المطروح على الصين بتبنّي النظام الرأسمالي سقط بالضربة القاضية في قاعة المؤتمر الـ20 للحزب، وكذلك في “حلبة يانان”، مع عدم استبعاد أن يؤدّي ذلك إلى حدوث اضطرابات شعبية رفضاً لتشديد قبضة الحزب الشيوعي، وتكرار مجزرة ساحة تيانمين، أو قلاقل عرقية وطائفية أو صراعات يقودها رموز الحزب المبعدين.

في الجزء الثالث غداً: كيف يجمع شي بين الشيوعي في الداخل والرأسمالية في الخارج؟

إقرأ أيضاً

هل تمرّ رئاسة الجمهوريّة من “خُرم” البلديّات؟

لا مشكلة نصاب في جلسة التمديد الثالث للبلديّات اليوم. تكتّل “لبنان القويّ” برئاسة جبران باسيل وكتلة “اللقاء الديمقراطي” برئاسة تيمور جنبلاط وعدد من النواب قاموا…

الغداء الرئاسي الفرنسي؟

ثلاثة عناوين تركّز عليها فرنسا لإعادة تجديد دورها على الساحة اللبنانية. تستعيد باريس نشاطها بعد تيقّنها من أنّ المسار الذي انتهجته منذ عام 2020 لم…

اللاءات الأربع للحزب تفرمل الخماسية..

في مقابل الحراك الدولي والداخلي الناشط بكلّ الاتّجاهات، جنوباً ورئاسيّاً ونزوحاً سوريّاً، تؤكّد أوساط مطّلعة لـ “أساس” أنّ تحرّكات الدول المعنيّة بخفض التصعيد على الحدود…

إيران وإسرائيل: نتّجه لحرب استنزاف طويلة بالمنطقة

بين ردّ إيران الضخم على قصف القنصلية الإيرانية في سوريا، وردّ إسرائيلي محدود على الردّ الإيراني. تتّجه المنطقة كلّها، بحسب مصادر مطّلعة على أجواء قوى…