أسفار الدخول إلى قصر بعبدا والخروج منه

لا بد لقارئ ملخصات عن عهود رؤساء الجمهورية اللبنانية الاستقلاليين الثلاثة عشر، من أن يستنبط مجموعة عوامل أساسية:

– غالبًا ما يكون سفر دخول الرئيس إلى قصر بعبدا نتيجة تدخلات من خارج الحدود: البريطانية والفرنسية في البدايات (بشارة الخوري، كميل شمعون). والناصرية والأميركية تاليًا (فؤاد شهاب). والفاتيكانية والفرنسية والناصرية (شارل حلو “الشهابي”). وقد يكون “تحرر” النواب اللبنانيين من التدخلات الخارجية في انتخابهم سليمان فرنجية أيذانًا بحروبهم الأهلية – الإقليمية. ومنذ العام 1976 حتى العام 2005 صار انتخاب الرئيس في يد قيادة النظام السوري البعثي الأسدي. وأخيرًا في يد النظام الخميمي في لإيران.

علاقة عون بالقصر الجمهوري تبدو غريبة: منه قاد الحروب وخاضها. وفي باحاته حشد المناصرين مرتين وفي زمنين مختلفين تمامًا، قبل أن يغادره مرة فارًا هاربًا، وأخرى محتفلًا بانهيار لبنان في عهده

– المسألة الأساسية الثانية تتمثل في أن سفر الخروج من القصر أو نهاية العهود الثلاثة عشر لم تكن متشابهة: منهم من مدد ولايته (بشارة الخوري، إلياس الهراوي، إميل لحود). ومنهم من خرج بشكل طبيعي وسلس (فؤاد شهاب، شارل الحلو، ميشال سليمان). ومنهم من سلم الرئاسة الفراغ (أمين الجميّل، ميشال سليمان، إميل لحود). وهذا تحول سياسية عامة في السنوات الأخيرة. ومنهم من انتهى عهده بثورة سلمية (الخوري) أو بحرب أهلية (شمعون، سليمان فرنجية). وهناك رئيسان قضيا اغتيالًا قيل تسلمهما السلطة (بشير الجميل، رنيه معوض).

عهود مضطربة                        

ومنذ استقلاله عام 1943، عرف لبنان 8 رؤساء جمهورية قبل اتفاق الطائف (1989)، و5 رؤساء بعده. المدنيون معظمهم من العائلات الاقطاعية والتقليدية والبيوتات السياسية (فرنجية،  معوض، جميّل، الهراوي، حلو، الخوري، شمعون). أو من الجنرالات (فؤاد شهاب، إميل لحود، ميشال سليمان، ميشال عون)، وكأن الياس سركيس “الشهابي” وحده يغرد خارج السرب.

الرئيس بشارة الخوري، أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، انتهى عهده  بثورة سلمية شعبية، سُمّيت بـ”ثورة ماء الورد”، أو “الثورة البيضاء”. وكان سببها التمديد والفساد الذي كان عرّابه شقيق رئيس الجمهورية سليم الخوري الملقّب بـ”السلطان سليم”. وغادر الرئيس كميل شمعون مع أزيز رصاص ثورة 1958 الدامية. وكان التلاعب بالانتخابات عادة متبعة من معظم الرؤساء المقتدرين (الخوري، شمعون، شهاب). لكن شهاب سلم السلطة بطريقة سلسة وهادئة للرئيس المنتخب بعده. ولما مورست عليه ضغوط كثيرة للبقاء في الحكم بعد توفر إمكانية تعديل الدستور بفضل حيازته أكثرية نيابية في المجلس، رفض الأمر وانتقل إلى بيته في جونية.  

عهد سليمان فرنجية بدأ عهده بإطلاق النار العشائري الزغرتاوي ابتهاجًا في ساحة النجمة ببيروت، وانتهى باطلاق قذائف مدافع الحرب، اضطر في آذار 1976 إلى مغادرة القصر الرئاسي في بعبدا تحت وابل من القذائف التي أطلقها ضابط منشق عن الجيش.

منذ استقلاله عام 1943، عرف لبنان 8 رؤساء جمهورية قبل اتفاق الطائف (1989)، و5 رؤساء بعده

عهود سورية

في 23 تشرين أول 1976 دخل ألياس سركيس القصر الذي كان مهجوراً إلا من عدد من الموظفين. وكان عليه أن يقوم بعملية صيانة جديدة للرئاسة والقصر الذي التقى فيه مرات الرئيس المنتخب بشير الجميل قبل اغتياله، فانتخب أخوه أمين الجميل خلفًا له، فغادر بعبدا مسلمًا قائد الجيش ميشال عون رئاسة حكومة عسكرية.

الرئيس رينيه معوض الذي انتخب في 5 تشرين الثاني لم يتسلم الرئاسة من أحد ولم يسلمها لأحد. اغتيل في 22 نوفمبر بعد أيام على إقامته في المقر الموقت في بناية بالرملة البيضاء ببيروت. مثله الرئيس إلياس الهراوي الذي انتخب في فندق بارك أوتيل في شتورا بعد اغتيال معوض بيومين، لم يتسلم السلطة من أحد. أقام أولاً في ثكنة أبلح العسكرية التابعة للجيش اللبناني ثم انتقل إلى المقر الموقت في بناية الرملة البيضاء.

بعد الاطاحة بالعماد ميشال عون من قصر بعبدا في 13 أكتوبر 1990 بدأت عملية إعادة ترميم قصر بعبدا الذي انتقل إليه الهراوي في 28 يوليو (تموز) 1993 لتعود الرئاسة إلى هذا القصر. كان من المفترض أن يسلم الهراوي الرئاسة لمن يخلفه بعد 6 سنوات من عهده. لكن حافظ الأسد مدد له عهده مدة ثلاثة أعوام. وفي نهايتها سلم الرئاسة إلى الرئيس أميل لحود في 24 نوفمبر 1998. كانت تلك المرة الأخيرة التي يحصل فيها تسلم وتسليم بين رئيسين.

رئيسا المقاومة

لم يتردد حزب الله في تسمية لحود الرئيس المقاوم. وقد مدد بشار الأسد رئاسته سنوات ثلاث سنوات، ليسلم السلطة إلى الفراغ ويغادر القصر ليلة 25 نوفمبر 2007 في ظل انقسام سياسي داخلي كبير بدأ قبل اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 شباط 2005، واستمر مذذاك ولا يزال.

بعد لحود لم يتسلم الرئيس ميشال سليمان الرئاسة من أحد ولم يسلمها لأحد. وهو انتخب على وقع اجتياح حزب الله وحلفائه بيروت في 7 أيار، وفرض ما سمي “اتفاق الدوحة” الذي تحول إلى فخ للقبض على الحكومة بالثلث المعطل أو الوزير الملك. وغادر ميشال سليمان في آيار 2014 قصر بعبدا وسلمه إلى الفراغ. وراح الفراغ يجر الفراغ رئاسيًا وحكوميًا من أجل تثبيث قوة العونيين في السلطة، تمهيدًا لانتخاب ميشال عون في 2016 بعد تسوية انتجتها الحماقات السياسية.

في 30 تشرين الأول غادر عون القصر من دون أن يسلم الرئاسة لرئيس يخلفه. وعون هو الوحيد الذي خرج من القصر الجمهوري مرتين: الأولى في 1990 تحت وابل القذائف والمدافع السورية وقصة طائرات السوخوي. والثانية بمواكبة شعبوية باسيلية كرنفالية اقتصرت على أنصاره ومؤيديه. وشهد عهد عون أسوأ الكوارث في تاريخ لبنان: انفجار مرفأ بيروت أبسط مثال. وانهيار الليرة والاقتصاد، وسرقة أموال المودعين وانقطاع الكهرباء الدائم.

إقرأ أيضاً: العسكر في بعبدا: “حكمة سليمان” والدمار العوني الشامل

وعلاقة عون بالقصر الجمهوري تبدو غريبة: منه قاد الحروب وخاضها. وفي باحاته حشد المناصرين مرتين وفي زمنين مختلفين تمامًا، قبل أن يغادره مرة فارًا هاربًا، وأخرى محتفلًا بانهيار لبنان في عهده. وبعد طرده منه بالقوة عاد إليه بقوة غيره. ولربما تنطوي علاقة هذا الرجل بذاك القصر على ما ينِّم أنه يحسبه بيته، أو غرام حياته الوحيد.

*ملاحظة: هذا النص وما سيليه يستند إلى كتب ودراسات وكتابات ستُذكر تباعاً قاربت العهود على معناها السياسي ومن منظور حاول التأريخ للمتغيرات اللبنانية وتفاعلها مع خارج كان يتقلّب بحسب الصراعات الدولية والإقليمية.

ستنشر الحلقة الأولى غداً بعنوان: بشارة الخوري: أطاحته “انقلابات” سوريا

إقرأ أيضاً

عهد ميشال عون: جنرال الانقلابات الدائمة

مع نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، طوى لبنان صفحة سوداء من تاريخه المعاصر لعهد كانت سنواته الستّ انقلاباً مستمرّاً على الدولة والدستور والطائف. بيد أنّ…

ميشال سليمان: جامع مجد المعادلتين.. “الخشبيّة” و”الذهبيّة”

لعلّ ميشال سليمان هو الرئيس الأقلّ إشكاليّة منذ اتفاق الطائف. فهو أوّل رئيس جاء بتوافق وإجماع لبنانيَّين، معطوف على إجماع عربي ودولي، بعد خروج القوات…

إميل لحّود: رجل الأسد “بنصّ كمّ”

إميل لحّود هو رجل سوريا الأسد، الأب والابن من بعده. وقد سجّل عهده أحداثاً مهمّة ومفصليّة في تاريخ لبنان الحديث: – انسحاب الجيش الإسرائيلي من…

الياس الهراوي: عهد وصاية “الروح القدس” الأسديّة

في التقاليد اللبنانية (العشائرية)، لا يُفَكَّر بالخلف قبل دفن السلف. لكنّ مهلة الخجل، أي وقت الحداد، حسب تيودور هانف، لم تُحترَم بعد اغتيال الرئيس رينيه…