بايدن وأمنه القومي (1): الصين أولاً ثم روسيا… وبعدهما أوروبا

“إنّ حاجة العالم بجميع أنحائه إلى القيادة الأميركية لم تكن يوماً أشدّ ممّا هي عليه الآن. نحن في خضمّ منافسة استراتيجية لتحديد المعالم المستقبلية للنظام الدولي، ولن نترك مستقبلنا عرضةً لأهواء أولئك الذين لا يشاركوننا رؤيتنا لعالمٍ حرٍّ ومنفتح ومزدهر وآمن، ولا توجد دولة في وضع أفضل للقيادة بقوّة وهدف من الولايات المتحدة الأميركية”.

بهذه الكلمات قدّم الرئيس الأميركي جو بايدن في 12 تشرين الأول 2022، لنصّ استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية في عهده الذي يتزامن مع السنوات الأولى “لعقد حاسم لأميركا وللعالم، ستُحدّد فيه شروط المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى وستتقلّص الفرصة للتعامل مع التهديدات المشتركة. وبالتالي ستحدّد إجراءات الولايات المتحدة الأميركية وخطواتها الآن ما ستُعرف به هذه الفترة لاحقاً: هل تكون عصر صراعات أم بداية مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً”، كما أضاف الرئيس الأميركي في تقديمه.

“أساس” ينشر على حلقتين ملخّصاً لهذا التقرير السنوي، الذي صدر عن الإدارة الأميركية قبل أيّام. في الجزء الأوّل تفصّل الاستراتيجية “الخطر الروسي والصيني”، وتعتبر أنّ “دعم أوروبا” هو الأساس، كذلك مواجهة الإرهاب “السنّي” حصراً، دون أن تسمّيه.  

الاستراتيجية رأت أنّه “في ظلّ عالم أكثر انقساماً وأقلّ استقراراً من ذي قبل، أصبحت الحاجة إلى دور أميركي قويّ وهادف ملحّة أكثر من أيّ وقت مضى

رؤية الولايات المتّحدة ودورها

تحدّيان استراتيجيان أعلن التقرير أنّهما طبعا هذا العقد:

الأوّل: حقبة ما بعد الحرب الباردة انتهت نهائياً وهناك اليوم منافسة جارية بين القوى الكبرى لتشكيل معالم المرحلة المقبلة. وإزاء ذلك لا توجد أمّة في وضع أفضل للنجاح في هذه المنافسة أكثر من الولايات المتحدة ما دامت تعمل في إطار قضية مشتركة مع أولئك الذين يشاركونها رؤيتها لعالم حرّ ومفتوح وآمن ومزدهر.

الثاني: بينما تجري هذه المنافسة فإنّ شعوب العالم تكافح من أجل التعامل مع آثار التحدّيات المشتركة التي تتخطّى الحدود، مثل التغيّر المناخي ونقص الغذاء وانعدام الأمن وانتشار الأمراض المعدية وتصاعد الإرهاب ونقص الطاقة والتضخّم. وهي تحدّيات تتطلّب التعاون من أجل حلّها، لكنّ مواجهتها في بيئة دولية تنافسية، حيث المنافسة الجيوسياسية القومية والشعبوية المتزايدة، تجعل أيّ تعاون أكثر صعوبة، ولذلك لا بدّ من التفكير والتصرّف بطرق جديدة.

في مواجهة هذين التحدّيَيْن، حدّدت استراتيجية الأمن القومي أهدافها العليا في الحفاظ على المصالح الأميركية الوطنية:

– حماية أمن الشعب الأميركي.

– توسيع الازدهار الاقتصادي والفرص.

– تكريس القيم الديمقراطية في قلب أسلوب الحياة الأميركي والدفاع عنها.

– وبناء أقوى وأوسع تعاون ممكن مع الدول التي تسعى إلى التعاون فيما بينها لمواجهة التهديدات بهدف منافسة قوى الظلام وإحباط الجهود الرامية إلى تهديد هذه المصالح.

الاستراتيجية رأت أنّه “في ظلّ عالم أكثر انقساماً وأقلّ استقراراً من ذي قبل، أصبحت الحاجة إلى دور أميركي قويّ وهادف ملحّة أكثر من أيّ وقت مضى، فلا تزال الولايات المتحدة هي القوّة الرائدة في العالم”. واعتبرت أنّ “التحدّي الاستراتيجي الأكثر إلحاحاً يأتي من القوى التي تؤسّس للحكم الاستبدادي، مع اتّباع سياسة خارجية ارتدادية، حيث إنّ سلوكها يشكّل تهديداً للسلم والاستقرار الدوليَّين. كما أنّها تقوّض العمليات السياسية الديمقراطية في البلدان الأخرى، وتستفيد من التكنولوجيا وسلاسل التوريد لممارسة الإكراه والاستبداد والقمع”.

 

“عقبة” روسيا والصين

لهذا فإنّ روسيا والصين تطرحان تحدّيات متمايزة، وتسعيان الآن، كلّ منهما بطرقها الخاصة، إلى إعادة تشكيل النظام الدولي لخلق عالم يلائم طابعهما الاستبدادي:

– روسيا تشكّل تهديداً مباشراً للنظام الدولي الحرّ والمنفتح، وتنتهك القوانين الأساسية للنظام الدولي اليوم، كما ظهر ذلك في حربها العدوانية ضدّ أوكرانيا.

– أمّا الصين فهي المنافس الوحيد الذي اجتمعت لديه النيّة لإعادة تشكيل النظام الدولي مع قدراته المتزايدة على المستويات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية اللازمة للنهوض بهذا الهدف.

روسيا تشكّل تهديداً مباشراً للنظام الدولي الحرّ والمنفتح، وتنتهك القوانين الأساسية للنظام الدولي اليوم، كما ظهر ذلك في حربها العدوانية ضدّ أوكرانيا

هناك تحدّيات أخرى، إلى جانب المنافسة المتصاعدة بين الديمقراطية والاستبداد، هي تلك المشتركة العابرة للحدود. وهذه يمكن أن تكون قوّتها التدميرية أكبر من الحروب الكبرى، مثل تغيّر المناخ، وتزايد انعدام الأمن الغذائي، وانتشار التسلّح والإرهاب التكنولوجي، والهجرة والفساد، واندلاع أزمة طاقة عالمية بسبب استخدام روسيا لسلاح النفط والغاز، وتفاقمها بسبب إدارة “أوبك” لإمداداتها. كلّ هذا يؤكّد الحاجة إلى ضرورة التحوّل في مجال الطاقة العالمي بشكل سريع وعادل وموثوق، ويتطلّب مواصلة استكشاف جميع الفرص لتحقيق الاستقرار في أسواق الطاقة والحصول على الإمدادات لأولئك الذين يحتاجون إليها.. كما يتطلّب استخدام الدوافع التنافسية لصنع سباق نحو القمّة، وإحراز تقدّم بشأن التحدّيات المشتركة، سواء كان ذلك من خلال القيام باستثمارات في الداخل، أو من خلال تعميق التعاون مع البلدان الأخرى التي تشارك الولايات المتحدة رؤيتها.

إلى ذلك، أقرّت الاستراتيجية بأنّ الديمقراطية الأميركية “لم ترتقِ دائماً إلى مصافِ المُثل الأميركية”. فهي تعرّضت خلال السنوات الأخيرة للتحدّي من الداخل، ممّا يقتضي تصحيح الأخطاء، وتلبية الاحتياجات العامة بشكل أفضل، وتوسيع دائرة الفرص. وهناك هدف واضح للولايات المتحدة هو “بناء نظام دولي حرّ منفتح مزدهر”. ونهجها الاستراتيجي لتحقيق هذا الهدف يرتكز على “الاستثمار في المصادر والأدوات الأساسية للقوة الأميركية بكلّ عناصرها، الدبلوماسية والاستراتيجية والصناعية والإنمائية والاقتصادية والاستخباراتية والدفاعية، وتعزيز ديمقراطيتها في الداخل، والمبادرة إلى تشكيل النظام الدولي بما يتماشى مع مصالحها وقيمها، وبناء أقوى تحالف ممكن من الدول لتعزيز نفوذها الجماعي لتشكيل بيئة استراتيجية عالمية ومواجهة التحديات المشتركة، وتحديث وتقوية الجيش الاميركي، بحيث يكون جاهزاً لعصر المنافسة الاستراتيجية مع القوى الكبرى، وتحديد قواعد اللعبة في ما يخص التكنولوجيا والأمن السيبراني والتجارة والاقتصاد”.

كما اعتبرت الاستراتيجية أنّ تحالفات وشراكات الولايات المتحدة الاميركية في جميع أنحاء العالم هي أهم أصولها الاستراتيجية وعنصر لا غنى عنه يساهم في السلام والاستقرار الدوليين. فالولايات المتحدة قوة دولية لها مصالح عالمية، وإذا انزلقت منطقة ما إلى الفوضى، أو هيمنت عليها قوة معادية، فسيؤثّر ذلك سلباً على مصالحها في المناطق الأخرى.

 

أولويّات استراتيجيّة

حدّدت الاستراتيجية أولويّات أميركا الدولية بالآتي:

1- مواجهة الصين: المنافس الوحيد الذي تجتمع لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، مع القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية المتزايدة للقيام بذلك. وقد أكّدت الاستراتيجية على دعم حلفائها وشركائها، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ضدّ التجبّر الصيني، وتعزيز قدراتهم على اتخاذ قرارات سيادية تتماشى مع مصالحهم وقيمهم، وتلبية احتياجاتهم الاقتصادية والإنمائية. وأكدت بشكل خاصّ على ضرورة الحفاظ على السلام والاستقرار في مضيق تايوان، وعدم دعمها استقلال تايوان ومعارضتها لأيّ تغييرات أحادية الجانب في الوضع الراهن من أيّ من الجانبين، بل السعي إلى مزيد من الاستقرار الاستراتيجي من خلال التدابير التي تقلّل من خطر التصعيد العسكري غير المقصود، وتعزّز الاتصالات في الأزمات، وبناء الشفافية المتبادلة.

التهديد الإرهابي اليوم أكثر تنوّعاً من الناحية الأيديولوجية ومن حيث الانتشار الجغرافي ممّا كان عليه قبل عقدين من الزمن

2- كبح جماح روسيا: التي تشكّل اليوم تهديداً مباشراً ومستمراً للسلام والاستقرار الدوليين من خلال انقلابها على الأسس الكبرى للنظام الدولي عبر الغزو الشامل لأوكرانيا، وتدخّلها العسكري في سوريا، وجهودها لزعزعة استقرار جيرانها باستخدام الاستخبارات والقدرات السيبرانية، ومحاولاتها الصارخة لتقويض العمليات الديمقراطية الداخلية في جميع أنحاء أوروبا وآسيا الوسطى وفي العالم. هذا إضافة إلى تدخّلها في السياسة الأميركية وعملها على زرع الانقسامات بين الأميركيين.

في هذا السياق، أكدت الاستراتيجية على أنّ الولايات المتحدة ستواصل دعم أوكرانيا، وتشجيع تكاملها الإقليمي مع الاتحاد الأوروبي، وأنها ستدافع عن كل شبر من أراضي الناتو وستلتزم بسياسة الردع، وعند الضرورة ستردّ على الأعمال الروسية التي تهدد المصالح الأميركية الأساسية، بما في ذلك الهجمات الروسية على بنيتها التحتية وديمقراطيتها. ولن تسمح لروسيا، أو لأيّ قوة، بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها.

3- تعميق التحالف مع أوروبا: ستعمل أميركا مع حلفائها في الناتو لردع العدوان الروسي على أوكرانيا، وبناء القدرة على الصمود ضدّه والدفاع عن سيادتها وسلامة أراضيها مع فرض تكاليف باهظة على موسكو بسبب عدوانها. ستعمل أميركا أيضاً على تعزيز استقرار الديمقراطيات الأخرى وقدرتها على الصمود. كما تحافظ على التزامها الأساسي بالسعي إلى منطقة أوروبية كاملة وحرّة وآمنة وإحباط التهديدات الإرهابية. وتشجّع التعاون الوثيق بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وستساعد الشركاء في تعزيز المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون والتنمية الاقتصادية في غرب البلقان وجنوب القوقاز، والتواصل مع تركيا لتعزيز علاقاتها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية مع الغرب ولحشد التعاون الدولي بشأن التحديات الأكثر إلحاحاً في العالم.

 

مكافحة الإرهاب والتسلّح و”النوويّ”

التهديد الإرهابي اليوم أكثر تنوّعاً من الناحية الأيديولوجية ومن حيث الانتشار الجغرافي ممّا كان عليه قبل عقدين من الزمن. فقد توسّع تنظيما القاعدة وداعش والقوات المرتبطة بهما من أفغانستان والشرق الأوسط إلى إفريقيا وجنوب شرق آسيا. ولا تزال سوريا واليمن والصومال ملاذات إرهابية، وأصبح الوكلاء المحليون جهات فاعلة راسخة في الصراعات الإقليمية. وما زال العديد من هذه الجماعات يعتزم تنفيذ هجمات، أو إلهام الآخرين لمهاجمة الولايات المتحدة ومصالحها في الخارج، بالاضافة الى تهديدات متزايدة بشكل حادّ من مجموعة متطرفين عنيفين محليين داخل الولايات المتحدة.

إقرأ أيضاً: سياسة بايدن تجاه لبنان والمنطقة: لا داعي لـ «المقامرة»…

وأكدت الاستراتيجية على ضرورة تطوير نهج مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم، وزيادة التعاون والدعم للشركاء الموثوق بهم، والتحوّل من استراتيجية “تقودها الولايات المتحدة، ومدعومة من الشركاء” إلى استراتيجية “يقودها الشركاء، ومدعومة من الولايات المتحدة”، وعند الضرورة استخدام القوة لتعطيل وإضعاف الجماعات الإرهابية التي تخطط لشنّ هجمات ضدّ الولايات المتحدة أو شعبها أو منشآتها الدبلوماسية والعسكرية في الخارج.

 

في الجزء الثاني غداً:

ما هي كلفة إهمال أميركا للشرق الأوسط؟

إقرأ أيضاً

“سابقة موريس سليم”: الطعن بتعيين رئيس الأركان!

 سجّل وزير الدفاع موريس سليم سابقة لم تعرفها حكومات ما قبل الطائف ولا بعده من خلال الطعن أمام مجلس شورى الدولة بقرار تعيين رئيس الأركان…

نقابة المهندسين: لماذا تعاقب طرابلس تيار المستقبل؟

عقب عودة الرئيس الحريري النسبية إلى الأجواء السياسية في ذكرى 14 شباط، أراد تيّار المستقبل تدشين عودته إلى الملعب السياسي عبر بوّابة انتخابات نقابة المهندسين،…

الحزب لباسيل: الكلمة للميدان!

لم تلقَ رسالة النائب جبران باسيل إلى الدول الأعضاء في مجلس الأمن أيّ ردّ علني حتى الآن من الحزب في شأن الدعوة إلى صدور “قرار…

ماذا يحدث في “القنوات الخلفيّة” بين واشنطن وطهران؟

لا تتعلّق حسابات واشنطن فقط بشكل الرّدّ الإيرانيّ على قصف قنصليّة طهران في دمشق. إذ ترتبط أيضاً بشكلِ الرّدّ الإسرائيليّ على الضربة الإيرانيّة ليل السّبت…