الصين تستفيد من ضعف روسيا.. وتستعيد حكم الفرد

لا تشذّ الصين عن الدول التوتاليتارية التي يحكمها حزب واحد، هو في حالتها الحزب الشيوعي الصيني الذي يطبّق ما “ديكتاتورية الطبقة العاملة”.

ولا تختلف عن الدول التي لا تحترم حتّى القيادات والرؤساء الذين ضحّوا “في سبيل الثورة”. ولا تخيّب قول روبسبيير أنّ “الثورة تأكل أبناءها”. فخلال المؤتمر العشرين الأخير للحزب الحاكم، ضجّ العالم بفيديو “اقتياد” الرئيس الصيني السابق هو جينتاو (2003 – 2013) إلى خارج القاعة رغماً عنه. هو الذي كان يجلس ملاصقاً للرئيس شي جين بينغ. وهو أسلوب مخابراتي أمني لا يليق بالقيادات التي يأفل نجمها.

التاريخ يعيد نفسه فالأمر ذاته حصل مع والد الرئيس الحالي شي بينغ، عندما جرّده ماو تسي تونغ من موقعه كنائب رئيس الحكومة وعضو قيادي في المكتب السياسي . وما عاناه شي بينغ في صغره من جراء اضطهاد والده على يد ماو تسي تونغ مارسه بدوره أمام عدسات التلفزة ووسائل الإعلام . فالديكتاتورية هي ذاتها مهما تعدّدت الوجوه.

في هذا الجوّ من “الاستبداد”، أمام كاميرات الإعلام العالمي، عقدت الصين المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الحاكم، في موعده المحدّد، لتطرح مسائل كثيرة للنقاش، منها ما هو داخلي ومنها ما هو إقليمي، إضافة إلى دور الصين في النظام العالمي الراهن والمستقبلي.

التاريخ يعيد نفسه فالأمر ذاته حصل مع والد الرئيس الحالي شي بينغ، عندما جرّده ماو تسي تونغ من موقعه كنائب رئيس الحكومة وعضو قيادي في المكتب السياسي

مشكلات وسلطة ضيقة

شهدت الصين في السنوات الأخيرة تباطؤاً في النمو وصل خلال سنوات محاربة وباء الكورونا إلى حدّ “سلبي”. وفي ظلّ فجوة بين سكّان المدن وسكّان الريف، ادّعى المؤتمر أنّه يعمل على “ردم الفجوة وإعادة توزيع الثروات”. وتحت ضغط أزمة عقارية تعصف بالشركات الخاصة والمملوكة من الدولة، وتترك آثارها السلبية على النظام المصرفي الصيني كما على شركات الضمان (تصل خسائرها إلى حدود 400 مليار دولار)، يرفض الحكم تحمّل أوزارها والتعويض عن خسائرها على الرغم من تسبّبها بنقمة شعبية كبيرة. هذا إضافة إلى معاناة المصانع الصينية من نقص الموادّ والإمدادات والركود… على منوال ما يحصل في الزراعة.

أظهر المؤتمر العشرون أمام عدسات التلفزة والإعلام جوانب “القوّة والاتحاد”، بيد أنّ تصويته للجنة مركزية مؤلّفة من 207 أعضاء (من أصل 1.4 مليار مواطن) وتضمّ سبع نساء فقط، واختصارها بمكتب سياسي من 25 عضواً، مختصَرٍ بدوره بسكرتاريا مصغّرة دائمة حاكمة مؤلّفة من 7 أشخاص، من بينهم الأمين العام شي جين بينغ، ما هو إلا دليل على تقديم جماعة بينغ على غيرهم وتسليمهم مقاليد السلطة بعدما تمّ تطهير هذه الهيئات ممّن هم أصحاب آراء مختلفة.

 

الماوية نموذجاً.. وعكسها

عانت الصين من ماو تسي تونغ وتمثّله بجوزف ستالين، وتولّيه ثورة ثقافية قضت على خصومه وعلى فئات واسعة من المثقّفين وكوادر الصين في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما داخل الجيش. واستمرّت الصين سنوات عدّة تمجّد ماو تسي تونغ و”تعبد الزعيم الفرد”. أضحت الماويّة تياراً عالمياً لتصدير الثورة حتى في بعض دول أوروبا كإيطاليا مثلاً، ونشأت منظمات وفق أفكارها مثل منظمة “بادر ماينهوف” في ألمانيا، و”الخمير الحمر” في كمبوديا، حيث تراكمت جماجم المواطنين في عهد بول بوت ووصلت إلى أعلى من ناطحات السحاب.

لإبعاد الصين عن عبادة الزعيم ولعدم إيقاع سلطتها تحت حكم الفرد، خلف دينغ شياو بينغ، ماو تسي تونغ، بين عامَيْ 1978 و1992، فقاد البلاد مرسِّخاً مفهوم القيادة الجماعية بديلاً عن سلطة الفرد المطلقة. وقاد الصين إلى التخلّي عن الماركسية الجامدة وحتى عن الماوية المنحرفة، واتّجه نحو اقتصاد السوق، ودمج بين الملكية العامّة لوسائل الإنتاج والملكية الخاصّة العائدة للأفراد، ودفع إلى عدم حصر ملكية وسائل الإنتاج بيد المؤسّسات الحكومية. وتنبّأ دينغ شياو بينغ بأنّ الصين سترتقي إلى مصاف الدول الكبرى عام 2028، وأرست نظريّاته انقلاباً جذرياً في الصين مقارنة بما كانت عليه في عصر الماويّة.

عودة تسلط الفرد

غير أنّ الرئيس الحالي (تمّ التجديد له لولاية ثالثة) والأمين العامّ شي جين بينغ المستمرّ في تطبيق النظريات الاقتصادية التي أرساها دينغ بينغ، تراجع عن مفهوم القيادة الجماعية نحو تكريس سلطته الفردية، فأبعد من يعارضه الرأي من المؤسسات الحزبية والحكومية على حدّ سواء، وعدّل الدستور الذي يحدّد لرئيس الجمهورية ولايتين من عشر سنوات، فأعيد التجديد له لولاية ثالثة تمهّد لحكمه طوال العمر.

دعا شي بينغ خلال المؤتمر وفي المؤتمرات الصحافية الجيش الصيني إلى تجديد ذاته، والاعتياد على استعمال التكنولوجيا الحديثة، وبناء البحرية لتوازي في العام 2045 البحرية الأميركية، والحصول على سلاح جوّي متطوّر ينسّق مع الأسلحة البرّية والبحرية والفضائية، ليتمكّن من “الانتصار في الحروب الإقليمية” والمساهمة في “تشكيل النظام العالمي”. يقصد شي بينغ بشعار الانتصار في الحروب الإقليمية سيطرته على بحر الصين الجنوبي من خلال كسر الدول التي تطلّ عليه بمياهها الإقليمية أو بمناطقها الاقتصادية الخالصة، أي بإخضاع الفليبين واليابان وإندونيسيا وفيتنام وبورما وماليزيا، وبضرب التعاون القائم بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا واليابان والهند. إضافة إلى تأكيد المؤتمر العشرين استعادة جزيرة تايوان (الدولة المستقلّة) وضمّها إلى الأرض الأم في البرّ الصيني، والسيطرة على مضيق تايوان الذي شهد هذا العام مرور نصف البواخر العملاقة الناقلة للمستوعبات .

 

اسفادة من ضعف روسيا

من الواضح أنّ الصين استفادت من حرب روسيا على أوكرانيا ومن الضعف الذي ظهرت عليه موسكو. وتجلّت استفادتها من تراجع نفوذ روسيا في دول آسيا الوسطى، أي كازاخستان وقيرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان، إذ أعلن الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف رفضه الحرب الروسية في أوكرانيا وتصويت بلاده في الجمعية العامة للأمم المتحدة بما يخالف رغبة موسكو. وهذا ما يشير إلى اعتماده على “غطاء صيني” في موقفه هذا. يُضاف إلى ذلك أنّ بعض هذه الدول ألغت مناورات مشتركة مع الجيش الروسي وأقفلت بعض قواعده وتنظر بعين الريبة إلى ما فعلته روسيا مع أوكرانيا وتتوجّس ممّا سيحدث لبلدانها في حال انتصار روسيا. وباتت هذه الدول لا تجد إلا الصين قوةً إقليمية بديلة عن التغطية الروسية. وكانت كازاخستان قد وافقت على مدّ أنابيب الطاقة مباشرة إلى الصين بعدما عارضته روسيا سابقاً ومنعته معتبرة أنّ المشروع ينافس خطّ أنابيب سيبيريا الروسي الذي يزوّد الصين.

هذا يؤكّد أنّ شي جين بينغ بشعار “مساهمة الصين في تشكيل النظام الدولي” الحلول محلّ روسيا اقتصادياً وعسكرياً في منافسة الولايات المتحدة، وتقليص نفوذ واشنطن من خلال استثمارات الصين في العالم، ومدّ الدول الفقيرة بالأموال وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة وأدوات بناء البنى التحتية، ولا سيّما المرافئ التي ستربطها بما يُسمّى “الحزام والطريق” كما فعلت في سريلانكا لمراقبة جنوب الهند، وفي جنوب باكستان حيث بنت مرفأ غوادار، وفي جنوبي إيران حيث أنشأت مرفأ جاسك لمراقبة الأسطول الرابع الأميركي ومدخل مضيق هرمز، وفي دجيبوتي لمراقبة باب المندب الذي يمرّ فيه 14 في المئة من تجارة العالم. وهكذا لا تقتصر الاستثمارات على الجانب الاقتصادي وحده، بل سيكون لهذه البنى دور أمنيّ وعسكري صيني شبيه بما كانت ترغب به الصين في ميناء حيفا بالقرب من القاعدة الأميركية هناك.

 

إلى أي صين يحتاج العالم؟

يعلن شي بينغ أنّ “العالم يحتاج إلى الصين”، ويؤكّد مؤتمر الحزب الحاكم في وثائقه الرسمية على الانتصار في الحروب الإقليمية والمساهمة في تشكيل النظام الدولي. من الطبيعي التسليم بأنّ التوزيع العالمي للإنتاج يحتاج إلى الصين، وبأنّه مهما تمّ الاستغناء عن بعض الصناعات الصينية، خاصة صناعة الرقائق الإلكترونية التي دعمتها واشنطن أخيراً بخمسين مليار دولار، ستبقى سلسلة الاستيراد من الصين ضرورية للعالم .

إقرأ أيضاً: “الربيع العربي” يُلهم الرئيس الصيني

لكن يبقى السؤال الأبرز: أيّ صين يحتاج إليها العالم؟ الصين العدوانية على الطريقة الروسية، أم الصين الماويّة المصدّرة للثورة على الطريقة الإيرانية؟ أم الصين التي تتدخّل في شؤون الدول وتضحّي باستقرارها الداخلي كما فعلت مع عمران خان في باكستان؟ أم صين الجماجم كما حصل في كمبوديا في عهد نظام بول بوت؟

نعم يحتاج العالم إلى الصين، إنّما تلك الصين المساهمة في استقرار الأمن والسلام العالميَّين، لأنّه ببساطة “كما يحتاج العالم إلى الصين، الصين تحتاج إلى العالم”. وما رسالة “إذلال” الرئيس الأسبق إلا لتأكيد أنّ الصين يحكمها ليس حزباً واحداً فقط، بل رجل واحد.

 

 *كاتب لبناني مقيم في دبي

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…