موت إليزابيث في اسكتلندا يعيد الحرارة إلى الوحدة مع الإنكليز..

هل كانت الملكة إليزابيت تدرك أنّ أجلها قد اقترب فسارعت إلى القلعة التاريخية في اسكتلندا حيث وافتها المنيّة؟ وهل كانت تخطّط لاستغلال حتى وفاتها من أجل ضخّ روح جديدة في الحياة الاسكتلنديّة – الإنكليزية؟

كانت الملكة الراحلة وقد قاربت المئة عام من عمرها المديد تعرف مدى ما وصلت إليه العلاقات بين إنكلترا واسكتلندا من تدهور وتراجع. وخلافاً لرغبتها كانت عاجزة عن عمل أيّ شيء للمحافظة على هذه الوحدة، فأرادت أن تقدّم، معنويّاً وعاطفيّاً، بوفاتها ما لم تكن قادرة على تقديمه دستوريّاً وسياسياً في حياتها من أجل إنعاش هذه الوحدة وإنقاذها. فهل تحقّقَ لها ما أرادت؟

 

عبء الوحدة الإنكليزية ـ الاسكتلندية

إنّ مراسم نقل جثمان الملكة إلى العاصمة الاسكتلندية أدنبرة، والصلاة عليه رسميّاً وشعبيّاً في كاتدرائية المدينة، ثمّ عرض جثمانها أمام الاسكتلنديّين لوداعه بتكريم لافت للنظر، رفَعَت من جديد من حرارة الوحدة الإنكليزية – الاسكتلندية التي تعاني من البرودة منذ سنوات عديدة، خاصّة بعد البريكست (الانفصال عن الاتّحاد الأوروبي) الذي صوّتت اسكتلندة ضدّه بأكثريّة كبيرة، لكنّه أُقرّ بأكثريّة إنكليزية مطلقة.

مع اهتزاز العلاقة الاتّحادية بين إنكلترا واسكتلندة، لم تجد الملكة الراحلة إليزابيت منفذاً دستورياً يمكنها من خلاله اتّخاذ أيّ مبادرة لإنقاذ هذه العلاقة إلى أن اقتربت ساعة الموت

لم يحصل الاستفتاء الذي جرى في اسكتلندا في عام 2014 حول الانفصال عن المملكة المتّحدة على الأكثريّة المطلقة، فاستمرّ الاتّحاد على مضض، كما كشف عن ذلك التصويت على البريكست. وزاد الطين بلّة أنّ الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام التالي (2015) أدّت إلى فوز المزيد من معارضي استمرار الوحدة مع إنكلترا.

 

“ذنب الكلب يتحكم بالرأس”

من جهة الإنكليز أدّت الانتخابات في إنكلترا ذاتها إلى فوز “وطنيّين” يعتبرون الوحدة مع اسكتلندة عبئاً عليهم، أمثال رئيس الحزب الوطني نيجل فاراج. وهو صاحب العبارة الشهيرة: “إنّ ذَنَب الكلب (اسكتلندة) يتحكّم بحركة الرأس (إنكلترا)”. ومن أقواله “الوطنيّة” أيضاً أنّ “الاسكتلنديّين يأخذون أموالنا.. ويسبّبون لنا المتاعب”، مشيراً إلى حصّة اسكتلندة في موازنة المملكة المتحدة التي تزيد على عائدات المملكة من الضرائب التي تجنيها منها، ومعارضة البرلمان الاسكتلنديّ للكثير من التشريعات التي تتّخذها الحكومة في لندن. كان الحزب الحاكم في اسكتلندا هو حزب العمّال. إلا أنّه أُبعد عن السلطة منذ عقود، بينما يعاني حزب العمّال في إنكلترا كحزب معارض تراجعاً مماثلاً ومنذ عقود أيضاً. والحزبان العمّاليّان متفاهمان على الوحدة الوطنيّة الإنكليزية – الاسكتلندية.

بين الكنيستين الإنغليكانية والكاثوليكية

في دراسة إحصائية حول مستقبل المملكة المتحدة (إنكلترا – اسكتلندا – ويلز – إيرلندة الشمالية) يقول ثلثا الذين جرى استفتاؤهم من الإنكليز إنّهم يتمنّون لو ينفصل شمال إيرلندة عن الاتّحاد ويقرّر مصيره، حتى بالعودة إلى إيرلندة الجنوبية. ومن المعروف أنّ الانقسام بين شمال وجنوب إيرلندة تمّ على خلفيّة دينية. فالشمال بأكثريّته السكّانية من أتباع الكنيسة الأنغليكانية الإنجيلية، فيما يتمسّك الجنوب الإيرلندي بالكاثوليكية.

ليست هذه الظاهرة موجودة في المعادلة الاسكتلنديّة. المشكلة هنا تكمن في القضية الوطنيّة. فالتاريخ الإنكليزي – الاسكتلندي لم يصل إلى الوحدة التي هو عليها الآن إلا بعد سلسلة من الصراعات الدموية. أمّا ويلز فمضطرّة، لضعفها الاقتصادي، إلى أن تعتمد على الدعم الإنكليزي وعلى حماية الدولة المتّحدة.

من أجل ذلك يطالب “الوطنيون” الإنكليز بوقف العمل بالإجراءات الدستورية التي تسمح، أو تعطي، النوّاب الاسكتلنديّين الأعضاء في مجلس العموم حقّ التصويت مع أو ضدّ القوانين الماليّة التي تتعلّق بالإنكليز وبعلاقتهم مع الإدارات الرسمية الإنكليزية.

مع اهتزاز العلاقة الاتّحادية بين إنكلترا واسكتلندة، لم تجد الملكة الراحلة إليزابيت منفذاً دستورياً يمكنها من خلاله اتّخاذ أيّ مبادرة لإنقاذ هذه العلاقة إلى أن اقتربت ساعة الموت، فكانت رحلتها المفاجئة إلى اسكتلندة حيث وافتها المنيّة بعد ثلاثة أيام من وصولها إليها.

 

موت يضُخ دماُ

لم يسبق أن توفّي في اسكتلندا ملك إنكليزي، ولذلك لا توجد سوابق بروتوكولية حول الإجراءات التكريميّة للملك المتوفّى. فكانت التجربة الأولى مع إليزابيت الثانية، وكانت تجربة ناجحة، إذ ضخّت دماً جديداً في شرايين العلاقات بين لندن وأدنبرة، بما صاحَبَ مراسم وداع الجثمان الملكي من احترام وتقدير وتعظيم على مستوى الحكومة والرأي العامّ الاسكتلنديَّين.

لا يعني ذلك أنّ الرغبة في الانفصال قد توقّفت أو تراجعت. إنّ مشاعر الاحترام التكريميّ للملكة المتوفّاة تقتضي تجاوز هذه المشاعر ولو إلى حين. وتحديد فترة “إلى حين” هو بيد الملك الجديد تشارلز الثالث.

إقرأ أيضاً: إليزابيت الثانية… ترحل في وقت غير مناسب

من هنا أهميّة زياراته لكلّ من اسكتلندة وويلز وإيرلندة الشمالية “لتقبّل التعازي” عن وفاة والدته الملكة، وهي الزيارات التي تحوّلت إلى مبادرات “لتجديد البيعة” وإعادة جمع أجزاء المملكة المتّحدة. ومن هنا أيضاً كان البرنامج الاحتفالي الاستثنائي في العاصمة لندن لتشييع الملكة إلى مثواها الأخير في عرض شعبي نادر، تجديداً للولاء للملكيّة الاتحادية وللملك تشارلز رمزاً جديداً لها.

إقرأ أيضاً

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…

“حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟

لماذا تعمّدت طهران ليلة السبت المنصرم الكشف عن كلّ تفاصيل خطة الهجوم الذي أعدّته ضدّ تل أبيب انتقاماً لاستهداف قنصليّتها في دمشق قبل أسبوعين والتسبّب بسقوط قيادات…

بايدن الرابح الأكبر من الضربة الإيرانيّة لإسرائيل

 ربح جو بايدن مزيداً من “المونة” على إسرائيل يمكّنه من لجم اندفاعها العسكري ضدّ إيران بعد توظيفه الدفاع عنها في المشهد الانتخابي. اكتسبت طهران موقع…