ما الذي يحرّك الجبهات في القوقاز؟

لن يفيدنا كثيراً التحديق في تفاصيل ما جرى ويجري من تصعيد عسكري بين أرمينيا وأذربيجان أو بين قيرغيزيا وطاجيكستان، فالمهمّ أن نحدّق في السياقات وتوقيتاتها. بعض النزاعات حدوديّة تقليدية تتعلّق بالماء والمراعي وموارد أخرى، وبعضها الآخر قوميّ أو إثني أو حتى طائفي. وما بين رواية هذا وذاك في تحميل مسؤوليّة الحروب والاحتكاكات والاشتباكات، القديمة والراهنة والمقبلة، فإنّ الثابت أنّ جمهوريّات الاتحاد السوفييتي القديمة ما زالت لم تهتدِ إلى كينوناتها النهائية.

ما زال تحرُّك الجبهات تحت السيطرة، وما زال بإمكان أصحاب الشأن ادّعاء التأثّر بضغوط العواصم، وفي مقدَّمها موسكو وواشنطن وأنقرة وسواها

خطايا السوفييت

قضايا الحدود في آسيا الوسطى تعود إلى الزمن السوفييتي حين كانت موسكو تُجري جراحات جغرافية فتقسّمها على هواها بين الجماعات العرقيّة فتتسلّل مناطق عرقيّات وسط مناطق عرقيّات أخرى. كان الرئيس الروسي قد حدّثنا عن خطيئة نيكيتا خروتشوف في منح القرم لأوكرانيا، وعلى منوال تلك الخطيئة المزعومة ارتكب السوفييت خطايا حدودية أنبتت ألغاماً سيصعب نزعها.

كانت كلّ هذه البلدان جمهوريّات تابعة لحكم الرفيق الأمين العامّ للحزب الشيوعي في موسكو. انهار ذلك الدبّ الأحمر حين استهوى ميخائيل غورباتشوف وجعله أكثر ذكاء ورشاقة. حينها وبدون تردد اندفعت كلّ هذه الكيانات معلنةً الاستقلال والانفصال عن الوصاية السوفييتيّة عام 1991. وفيما تتحمّل موسكو مسؤوليّة فِخاخ تَرِكتها، فإنّ أرمينيا وأذربيجان وقيرغيزيا وطاجيكستان ما زالت تبحث عن موقعها على خارطة العالم وداخل النظام الدولي، وخصوصاً إذا ما ظهرت أعراض للانتقال إلى نظام دوليّ آخر.

هشاشة السياسة ونفاقها

تصاعدت الاشتباكات بين قيرغيزيا وطاجيكستان أخيراً على الرغم من إعلان مكتب الرئاسة في قرغيزيا الجمعة أنّ الرئيس صادر جباروف ورئيس طاجيكستان إمام علي رحمان اتّفقا خلال اجتماع، على هامش قمّة منظّمة شنغهاي للتعاون في سمرقند في أوزبكستان، على وقف إطلاق النار وسحب القوات. يوحي هذا الأمر بهشاشة ما يقرّره الساسة أو نفاقه.

لكنّ الأخطر يكمن في الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت في مناطق التماس الحدوديّ بين أرمينيا وأذربيجان. انفجر القتال على وقع توتّرات متتالية لم تتوقّف منذ انتهاء الحرب الضروس التي اندلعت بين البلدين عام 2020. ويكشف سقوط أكثر من 200 قتيل عن ضراوة المواجهات وسهولة تحوّلها إلى حرب جديدة. وإذا ما اشتهر إقليم ناغورني قرة باغ الأرمني داخل الأراضي الأذريّة بكونه أكثر الألغام السوفييتيّة تجذّراً، فإنّ الخلافات الحدودية ما زالت صواعق جاهزة لتفجير الحروب بين البلدين.

في حروب أذربيجان-أرمينيا القديمة أو الاحتكاكات التي قد تتحوّل إلى حروب لاحقة كان للتوقيت أسراره وحكاياته. وإذا كنّا نميل إلى عدم الاستغراق في التاريخ، فإنّ للتصعيد الحدوديّ بين البلدين، كما للآخر بين قيرغيزيا وطاجيكستان، توقيتاً استراتيجيّاً لا يخفى على المراقب.

زوّدت أذربيجان أوروبا بـ 7.3 مليارات متر مكعّب من الغاز خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، وارتفعت صادرات البلاد من الغاز خلال الفترة نفسها بنسبة 23 في المئة

جمهوريات القوقاز على وقع التصدع الروسي

تتحرّك هذه الدول على خلفيّة تضعضع موقع روسيا وتصدّع مستوى نفوذها بسبب الحرب في أوكرانيا. ولئن رعت موسكو اتّفاق عام 2020 بين باكو ويريفان، وترعى عادةً تهدئة خواطر دوشنبه وبشكيك، فإنّ روسيا منهمكة بالورشة الدراماتيكية الأوكرانية، ولتلك الدول مصلحة في محاولة فرض أمر واقع جديد.

غير أنّ لعبة الخرائط شديدة الخطر على أيّ دولة معنيّة في المنطقة. إيران تعادي أذربيجان ولطالما اتّهمتها باستضافة بنى تحتية عسكرية إسرائيلية تهدّد نظام طهران. لكنّ القلق في مكان آخر، ذلك أنّ روابط ثقافية وتاريخية تجمع القوميّة الأذرية الكبيرة في إيران بأذربيجان، ولطالما كانت خيارات الأخيرة مضادّة معاندة لعقائد طهران. وهذا الأمر ما يفسّر تحالف إيران مع أرمينيا ودعمها بالموقف والدبلوماسية والسلاح.

سر الوصل بين تركيا وأذربيجان

في أذربيجان اللغة الأذريّة التركية لطالما كانت سرّ الوصل الذي لم ينقطع مع تركيا. تدرك أنقرة ما تمتلكه من نفوذ هناك، ولا تخفي الدعم والتمدّد داخل أذربيجان وأرجاء أخرى من القوقاز. كان واضحاً في حرب 2020 أنّ مسيّرات تركيا والأسلحة النوعية المقدّمة إلى أذربيجان هي التي حسمت المعركة لصالح باكو وفرضت اتفاق هزيمة على يريفان.

في إشكاليّة التوقيت الجدليّة لا يمكن ألّا يكون ملفّ الطاقة حاضراً بكثافة في تفسير حيثيّات التصعيد في المنطقة. أذربيجان دولة منتجة ومصدّرة للغاز الذي بات منتَجاً استراتيجيّاً دوليّاً عزيزاً في المعركة التي تدور في أوكرانيا. والأرجح أنّ حاجة العالم إلى غاز أذربيجان قد أوحى لباكو بأنّ الوقت مناسب لنيل تفهّم الكبار وتمرير مكتسبات جديدة كانت مستحيلة في ظرف وتوقيت سابقين.

أذربيجان تدعم أوروبا

بالأرقام زوّدت أذربيجان أوروبا بـ 7.3 مليارات متر مكعّب من الغاز خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، وارتفعت صادرات البلاد من الغاز خلال الفترة نفسها بنسبة 23 في المئة. كانت رئيسة المفوضيّة الأوروبية أورسولا فون دير لاين زارت أذربيجان في تموز واتّفقت مع الرئيس الأذريّ إلهام عليّيف على مضاعفة حجم الغاز المصدَّر من باكو إلى أوروبا “في غضون سنوات قليلة”.

إقرأ أيضاً: تشارلز.. آخر ملوك بريطانيا؟

ما زال تحرُّك الجبهات تحت السيطرة، وما زال بإمكان أصحاب الشأن ادّعاء التأثّر بضغوط العواصم، وفي مقدَّمها موسكو وواشنطن وأنقرة وسواها. غير أنّ تسعير “المحاور” ليس بريئاً في منطقة بقيت حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حدائق خلفيّة لروسيا وباتت تغري الصين بافتتاح حدائق جديدة لها في أرض القوقاز. لكن لا يبتعد حديث النار والمدافع عمّا يحدثه صراع الغرب مع الصين وروسيا متّحدَين ومنفردَين من زلازل ليست بعيدة من غرف واشنطن وحلفائها في العالم. ويد العبث في هذا التوقيت تفرج عنها زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي لأرمينيا. زيارة مثيرة للجدل وتستفزّ روسيا وتركيا معاً وتذكّر بزيارتها لتايوان التي ما زال جدلها عالياً.

إقرأ أيضاً

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…

“حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟

لماذا تعمّدت طهران ليلة السبت المنصرم الكشف عن كلّ تفاصيل خطة الهجوم الذي أعدّته ضدّ تل أبيب انتقاماً لاستهداف قنصليّتها في دمشق قبل أسبوعين والتسبّب بسقوط قيادات…

بايدن الرابح الأكبر من الضربة الإيرانيّة لإسرائيل

 ربح جو بايدن مزيداً من “المونة” على إسرائيل يمكّنه من لجم اندفاعها العسكري ضدّ إيران بعد توظيفه الدفاع عنها في المشهد الانتخابي. اكتسبت طهران موقع…