القاعدة في اليمن: متجذّر محلياً وموزع جغرافياً (1)

تعود نشأة تنظيم القاعدة في اليمن إلى أواخر الثمانينيّات، وتحديداً لدى عودة آلاف اليمنيين الذين كانوا يقاتلون في أفغانستان ضدّ القوات السوفييتية. عادوا من هناك متشبّعين بالفكر المتطرّف. غير أنّ التنظيم كان حتى عام 2009 بلا هيكل تنظيميّ واضح أو موحّد، وموزعاً جماعات وخلايا منفصلة لا تجمعها إلا “عقيدة” التنظيم. من هذه الجماعات، على سبيل المثال لا الحصر، “جيش عدن – أبْيَن الإسلامي” وكتائب “جند اليمن”. مع ذلك جذب “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” الاهتمام الدولي بصورة كبيرة بعد الهجوم الإرهابي الذي نفّذه في تشرين الأوّل 2000 على المدمّرة البحرية الأميركية “USS COLE” في ميناء عدن. وقبله نفّذ عمليات الإرهابية عدة استهدفت المنشآت النفطية والسيّاح الأجانب، إضافة إلى هجوم بالسيّارات المفخّخة على السفارة الأميركية في صنعاء عام 2008.

في عام 2009، اندمج عناصر القاعدة في اليمن مع عناصر القاعدة الفارّين من السعودية تحت وطأة الضربات الأمنيّة التي تلقّوها من السلطات السعودية، وشكّلوا معاً “تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية” بقيادة ناصر الوحيشي. وتبع ذلك تطوّر ملحوظ في العمليات الإرهابية التي شنّها التنظيم على المناطق العسكرية والمؤسّسات الدولية، وكان أبرزها محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية السعوديّ السابق في آب 2009، والمحاولة الفاشلة لتدمير طائرة إيرباص تابعة لشركة Northwest Airlines أثناء توجّهها إلى ديترويت في يوم عيد الميلاد من العام نفسه.

تبيّن على المستوى العالمي أنّ “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” هو أكثر التنظيمات الإرهابية ديناميكيّة

عمليّات ما قبل الدمج

استغلّ التنظيم الاضطرابات وحال عدم الاستقرار السياسي والأمنيّ باليمن بعد 2011 في توسيع نطاق تمدّده داخل الأراضي اليمنية. وأعلن إنشاء دُويلات متطرّفة صغيرة. ثمّ وسّع وجوده فسيطر في أيلول 2015 على ساحل حضرموت سيطرة كاملة، وكذلك مدينة المكَلَّا خامس أكبر مدينة في اليمن. وفي 16 حزيران 2015 عيّن التنظيم قاسم الريمي زعيماً له، خلفاً لناصر الوحيشي الذي قُتل في غارة طائرة بدون طيّار في مدينة المكلّا. وفي 29 كانون الأوّل 2020 قُتل زعيم التنظيم قاسم الريمي في غارة جوّية أميركية أيضاً، وعين خالد باطرفي خلفاً له.

قبل دمج الفرعين السعودي واليمنيّ (عام 2009)، قام تنظيم القاعدة بعدد من العمليّات في الأراضي السعودية. في شباط 1995 نفّذ هجوماً بسيّارة مفخّخة على إدارة للحرس الوطني أدّى إلى مقتل ستّة أشخاص. وفي حزيران عام 1996 نفّذ هجوماً عنيفاً بشاحنة مفخّخة على قاعدة عسكرية أميركية بالخُبَر خلّف 19 قتيلاً وحوالي 500 جريح. في أيّار عام 2003، هجم بثلاث سيّارات مفخّخة على مجمّع سكنيّ بالرياض تقطنه غالبية غربية متسبّباً بمقتل 26 شخصاً، وقد قُتل في الهجوم تسعة من المهاجمين. في تشرين الثاني عام 2003 هجم بشاحنة مفخّخة مستهدفاً مجمّعاً سكنيّاً بالرياض، وأسفر الهجوم عن سقوط 17 قتيلاً و100 جريح. وفي أوّل أيّار 2004 قام بهجوم في مدينة ينبع خلّف ستة قتلى غربيّين.

في 29 أيّار من عام 2004، اقتحم مسلّح مجمّعاً سكنيّاً في الخبر واحتجز عشرات الرهائن، أغلبهم موظّفون في شركات نفط أجنبية، وخلّفت العملية 19 قتيلاً غربيّاً، وتمكّن المهاجم من الفرار. في كانون الأول 2004، هاجم مسلّحون مقرّ القنصلية الأميركية بمدينة جدّة، وخلّف الهجوم خمسة قتلى من عمّال القنصليّة، إضافة إلى مقتل المهاجمين. في عام 2005 شنّت القوات السعودية حملة واسعة على معاقل التنظيم أدّت إلى توجيه ضربة موجعة له إثر مقتل عدد من قادته ومقاتليه واعتقال عدد آخر، ما أدّى إلى تراجع عمليات التنظيم الكبيرة.

اقتصرت هجمات فرع التنظيم في اليمن (قبل الدمج) على بعض العمليّات الصغيرة التي هوجم فيها أشخاص غربيّين باستثناء الهجوم على المدمّرة الأميركية عام 2000، والهجوم على السفارة الأميركية في صنعاء في أيلول 2008.

تجاوز تنظيم القاعدة في اليمن الأخطاء التي ارتكبها أقرانه في العراق ومناطق أخرى، فحاول الظهور بمظهر من له امتداد محلّي ولا علاقة له بالخارج

التنظيم والقبائل

تبيّن على المستوى العالمي أنّ “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” هو أكثر التنظيمات الإرهابية ديناميكيّة، وليست الاضطرابات أو “الدولة الضعيفة” السببين الوحيدين، بل إنّ التنظيم يحاول باستمرار اختراق البنية الاجتماعية المعقّدة في اليمن للحصول على حاضنة قبليّة في بلد يملك أكثر من 60 مليون قطعة سلاح، بل استغلّ الاحتكام إلى الأعراف القبلية التي تُعتبر من الأحكام الابتدائية المعترف بها في اليمن ويمكن استئنافها عبر القضاء. وهذا ما ساهم في إيجاد حاضنة اجتماعية في بعض المناطق التي كان التنظيم فيها أو حكمها.

تجاوز تنظيم القاعدة في اليمن الأخطاء التي ارتكبها أقرانه في العراق ومناطق أخرى، فحاول الظهور بمظهر من له امتداد محلّي ولا علاقة له بالخارج. لذلك فرض التنظيم قيادات محليّة في القيادة الظاهرية، خاصة أنّ المجتمع اليمنيّ بطبيعته يتحسّس من أيّ أجنبي في سلّم قيادة أيّ عمل له عمق مجتمعي.

يأتي اختيار التنظيم للقادة اتّساقاً مع محاولاته اختراق عمق القبيلة، كما ظهر في استقطابه طارق الذهب حين دخل البيضاء، وقبله أبا علي الحارثي حين تغلغل في شبوة ومأرب، حتى إنّ “القاعدة” حين دخلت أبين استقطب جلال بلعيدي المرقشي (أبا حمزة الزنجباري).

انتشر نفوذ تنظيم القاعدة في اليمن في محافظات شبوة وحضرموت والبيضاء وأبين، واتّخذ التنظيم من المساحة الصحراوية في حضرموت والسلسلة الجبلية في منطقة المثلّث (شبوة، أبين، البيضاء) مكاناً آمناً للاحتماء من الضربات الجوّية. وامتلك إدارات منفصلة في كلّ منطقة، وهذا ما أوجد تفاوتاً في أسلحة التنظيم بين منطقة وأخرى. فعلى سبيل المثال احتفظ التنظيم في حضرموت أثناء إدارته للمكلّا بعشرات الملايين من الدولارات من النفط وعائدات الميناء إلى جانب عشرات الملايين حصل عليها من نهب مكتب البريد في المدينة الساحلية، إلى جانب أسلحة ومعدّات ثقيلة حصل عليها من معسكرات القوات الحكومية بعد استيلائه على عاصمة المحافظة المكلّا.

إقرأ أيضاً: اعتداءات “11 أيلول”: “القاعدة” تعاونت مع سليماني ومغنيّة

تأكيداً لتوسّع التنظيم وزيادة نفوذه في اليمن، تجدر الإشارة إلى أنَّ عدد عناصره أثناء أحداث 11 أيلول 2001 كانوا بضع عشرات يترقّبون مصيرهم بغارات من طائرات بدون طيّار، لكن بعد ذلك أصبحوا منتشرين بالمئات وربّما الآلاف في بعض المحافظات اليمنية. وهنا يطرح سؤال أساسي عن الأسباب التي تدفع البعض إلى الانضمام إلى صفوف التنظيم، على الرغم من أنّ اليمن لم يبدأ فيه الفرز المذهبي قبل 2014 والانقلاب الحوثي.

هذه الأسباب نتطرّق إليها في الجزء الثاني.

*كاتب لبناني مقيم في دبي

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…