جمهورية بلا رئاسة.. والخطر الآتي من الجنوب

يتدحرج الوضع اللبناني إلى الأسوأ مع تضافر العوامل الاقتصادية والسياسيّة والأمنية التي لا يُبشّر أيّ منها بأنّ المرحلة المقبلة قد تشهد انفراجات من أيّ نوع. والجديد في مسار الانهيار اللبناني المتواصل منذ خريف 2019 أنّ الإشكالات الفردية والمسلّحة آخذة في الازدياد وفي أكثر من منطقة. وهذا ما يشكّل جرس إنذار بحقيقة الأوضاع على الأرض، حيث تأخذ انعكاسات الأزمة الاقتصادية الخانقة أشكالاً من التوتّر والضيق أكثر حدّة ولا يمكن التنبّؤ بسقفها، ما يشكل عامل ضغط إضافي وخطير على الوضع اللبناني ككلّ.

 

تصعيد عوني متوقع

يحصل ذلك في ظلّ مناخ سياسي مشحون ومتوتّر مع الاقتراب أكثر فأكثر من موعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأوّل. والأخطر أنّ الاهتمام السياسي يتّجه في مجمله نحو الاستعداد للسيناريوهات المتوقّعة ما بعد هذا التاريخ، أكثر منه نحو الضغط لانتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية المحدّدة لذلك، خصوصاً أنّ عون نفسه يتعمّد خلق الغموض في ما يخصّ أجندة اليوم الأخير من ولايته، وآخر صياغاته الإبداعية في هذا الصدد أنّه “سيترك القصر إذا كان اليوم الأخير من رئاسته يوماً طبيعياً لا أحد يضمر فيه الشرّ”. وكأنّ الدستور في إلزاماته أصبح خاضعاً لمعايير الشرّ والخير، وهذا كلّه من السوابق في لبنان!

ترسم هذه السوابق صورة قاتمة عن سيناريوهات ما بعد 31 تشرين الأوّل التي تنذر بجولة جديدة من التصعيد السياسي شبيهة بتلك التي شهدتها الأعوام بين 2005 و2008، مع فارق أنّ الاستعداد الداخلي، وبالأخصّ من قبل التيار الوطني الحرّ، للتصعيد سياسياً وفي الشارع قد يصطدم “بلواجم” خارجية، وبالتحديد فرنسية في ظلّ استمرار باريس في محاولاتها المرتبكة لضبط سقوف التداعي اللبناني.

قراءة الاستحقاق الرئاسي من زاوية سياسية بحت ما عادت ممكنة في ضوء التطوّرات في الجنوب اللبناني على خلفيّة ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل

موقف حزب الله

لكنّ ثمّة سؤال عن مدى استعداد حزب الله لمجاراة التيّار العوني في تصعيده المتوقّع، مع الأخذ في الاعتبار أنّ حاجة الحزب إلى عون وفريقه الآن، ولا سيّما في ملفّ ترسيم الحدود جنوباً، ستزيد من تماسك تحالفهما. وهو ما سينعكس حكماً على حسابات الحزب للمرحلة المقبلة، ما قبل 31 تشرين الأوّل وما بعده.

الأكيد أنّ الحزب سيحاول التحكّم بتصعيد التيّار لتوظيفه حسب أولويّاته وإدارته للمعركة الرئاسية داخلياً وخارجياً، مع استبعاد فرضيّة أن يبلغ تصعيد الحزب – التيار حدود الانقلاب الكامل على النظام، لأنّ اللحظة الإقليمية والدولية غير مؤاتية لمثل هذا الانقلاب، وبالأخصّ لأنّ إيران ليست في وارد التصعيد إلى هذا الحدّ في لبنان ما دامت تحافظ على وتيرة تصعيد “مضبوطة” في المنطقة على وقع أولويّاتها الإقليمية والدولية.

إذّاك فإنّ مناورات جبران باسيل لتحسين شروطه مع حزب الله عشيّة المعركة الرئاسيّة، وبالتحديد لجهة الضغط المتقطّع على “الثنائي الشيعي” في الملفّ الحكومي، لا يفترض أن توحي وكأنّ تحالف التيار والحزب يمرّ بأزمة أو أنّه أقلّ تماسكاً من ذي قبل، بل على العكس تماماً. وذلك لأنّ خيارات الحزب للمرحلة المقبلة محكومة بحجم التحدّي الكبير الذي يواجهه في ملفّ الترسيم البحري وفي الاستحقاق الرئاسي. وهذا ما يجعله مضطرّاً إلى استيعاب باسيل وإرضائه والتّمسّك به. وفي المقابل ليس باسيل في وارد زعزعة تحالفه مع الحزب قيد أنملة، وقد استثمر فيه وما يزال حتّى غدا حجر الزاوية في هويّته السياسية.

لذلك فإنّ أحد المنطلقات الرئيسية لقراءة المرحلة المقبلة هو ثبات تحالف التيار والحزب إلى حدّ اعتبارهما في جبهة سياسية ورئاسية واحدة.  

 

إسرائيل وطهران جنوباً

بيد أنّ قراءة الاستحقاق الرئاسي من زاوية سياسية بحت ما عادت ممكنة في ضوء التطوّرات في الجنوب اللبناني على خلفيّة ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. فيوماً بعد آخر يزداد هذا الملفّ خطورةً لا لأسباب متّصلة به حصراً، بل لأنّ التصعيد المتبادل بين إيران وإسرائيل قد يجد ترجمته الميدانية على أرض الجنوب، خصوصاً أنّ إسرائيل تحوّلت لاعباً أساسياً في ملفّ المفاوضات النووية بين الغرب وطهران، وهي تتصرّف كما لو أنّها حقّقت إنجازاً في إفشال الاتفاق بين الجانبين حتّى الآن، وبالتالي أصبحت أكثر استعداداً لتهديد إيران داخل أراضيها وفي سوريا ولبنان. وفي المقابل فإنّ طهران تستعرض ترسانتها العسكرية التي يمكنها استهداف العمق الإسرائيلي، سواء عبر حزب الله والإعلام التابع له أو عبر ما يعلنه المسؤولون الإيرانيون أنفسهم.

مسار التصعيد المتبادل بين تل أبيب وطهران قد يؤدّي إلى مواجهة بين إسرائيل والحزب في الجنوب

طبعاً يصعب توقّع حربٍ إسرائيلية ضدّ حزب الله من دون غطاء أميركي، وهو ما لا يبدو متوافراً حتّى الآن إذا ما نُظر إلى التعامل الأميركي “البارد” مع طهران، لكن لا يمكن اعتبار هذا الغطاء العامل الوحيد الحاسم في مسار التصعيد المتبادل بين تل أبيب وطهران.

لكنّ مسار التصعيد المتبادل بين تل أبيب وطهران قد يؤدّي إلى مواجهة بين إسرائيل والحزب في الجنوب. واللافت في هذا السياق أنّ إسرائيل التي حاولت في الفترة الماضية الإيحاء بأنّها مستعدّة للتنازل في ملفّ الترسيم، ومن ذلك تأخير موعد استخراج الغاز من حقل كاريش، عادت إلى المناورة والتصعيد بشكل أوضح أخيراً. وهذا ما انعكس في مضمون زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكستين لبيروت، حتّى إنّ ثمّة ارتفاعاً ملحوظاً في وتيرة التهديدات الإسرائيلية للحزب ولبنان، مردّه أنّ الحكومة الإسرائيلية لا تريد الظهور كما لو أنّها تراجعت أمام تهديدات حزب الله وتنازلت له. وذلك ليس لأسباب متّصلة بالتنافس السياسي الداخلي الانتخابي فحسب، بل أيضاً لأنّ إسرائيل التي انتقلت إلى مرحلة جديدة من التصعيد ضدّ إيران لا يمكنها التراجع أمامها في الجنوب اللبناني.

الترسيم: غموض واستنزاف

في المقابل فإنّ حزب الله، الذي وضع معادلة “الغاز مقابل الغاز” وحدّد سقفاً زمنياً للاتفاق مع إسرائيل هو نهاية أيلول، لم يعلن موقفاً صريحاً من التسريبات الإسرائيلية عن تأجيل استخراج الغاز من كاريش شهراً وربمّا أكثر إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية. ولم يعلن بعد موقفاً من التسريبات الجديدة عن إمكان بدء الاستخراج في 20 أيلول أو في الأسبوع الأول من تشرين بالتزامن مع الإيحاء بفرص التوصّل إلى اتفاق قبل نهاية تشرين، وخصوصاً أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن يدفع بهذا الاتجاه.

لكنّ ما سُرّب من لقاءات هوكستين في بيروت، ، وما سُرّب من موقف الحزب حياله يغرقان ملف الترسيم البحري في الغموض، لكنّه غموضٌ يستنزف معادلة “الغاز مقابل الغاز”. فإذا كان تأجيل الاتفاق واستخراج الغاز من كاريش يضرّ بمصلحة إسرائيل فهو يضرّ أكثر بمصلحة لبنان. وبالتالي فإنّ معادلة حزب الله تلك ستكون عرضة للتساؤل والتشكيك كلّما تأخّر الاتفاق. ولذلك فإنّ توجيه الحزب “جرعة تذكيريّة” لإسرائيل ليس مستبعداً. ويشير اشتباكه المفتعل مع “اليونيفيل” إلى حالة الاستنفار التي يعيشها على الحدود الجنوبية. وهذه كلّها عوامل قد تدفع إلى تسخين الجبهة مع إسرائيل وصولاً ربّما إلى “أيّامٍ قتالية” بين الجانبين، ولا سيّما في ظلّ التصعيد المتبادل بين إسرائيل وإيران، الذي تتفوّق فيه إسرائيل حتّى الآن.  

الرئاسة والعجز الفرنسي

في الملفّ الرئاسي تسعى فرنسا أو توحي بسعيها – بعد عجزها عن إظهار قدرتها على التّدخّل في ملفّ ترسيم الحدود البحرية – إلى إجراء الاستحقاق الرئاسي ضمن مهلته الدستورية. لكنّ الوقائع السياسية التي ترجّح حدوث الفراغ في سدّة الرئاسة قد تدفعها إلى خفض طموحها في هذا الشأن، خصوصاً أنّ فكفكة عقد الانتخابات الرئاسية صعبة جدّاً، مقارنة بالانتخابات النيابية التي كان حصولها في موعدها إحدى نتائج مسار التقارب بين فرنسا وحزب الله.

إقرأ أيضاً: لبنان حذِر من مطلب العوّامات الإسرائيلي.. والحزب مستنفر

لكنّ هذا لا يعني أنّ الطرفين غير مهتمّين بالتواصل لإنتاج توافقٍ بشأن رئاسة الجمهورية. والمحكّ الأساسي هنا ليس انتخاب رئيس جديد، وإنّما شخص هذا الرئيس. فهل يكون رئيساً تسوويّاً حقّاً أو رئيساً يوالي حزب الله تحت غطاء التسوية؟ في الحالة الثانية سنكون أمام نسخة معدّلة من عهد ميشال عون، وهو ما يبقي المقاربة العربية، وبالأخصّ السعودية، للملفّ اللبناني على حالها. هذا فضلاً عن أنّ الحصول على تغطية أميركية متينة لتسوية مماثلة لن يكون مضموناً في ظلّ الوتيرة الراهنة للعلاقات الإيرانية – الأميركية. وكلا الأمرين يبقيان لبنان في دائرة التجاذب والصراع الإقليميَّين والدوليَّين أياهما. وهذا لن يكون بلا أثر سلبي على مستقبل الانهيار الاقتصادي.

إقرأ أيضاً

هل تمرّ رئاسة الجمهوريّة من “خُرم” البلديّات؟

لا مشكلة نصاب في جلسة التمديد الثالث للبلديّات اليوم. تكتّل “لبنان القويّ” برئاسة جبران باسيل وكتلة “اللقاء الديمقراطي” برئاسة تيمور جنبلاط وعدد من النواب قاموا…

الغداء الرئاسي الفرنسي؟

ثلاثة عناوين تركّز عليها فرنسا لإعادة تجديد دورها على الساحة اللبنانية. تستعيد باريس نشاطها بعد تيقّنها من أنّ المسار الذي انتهجته منذ عام 2020 لم…

اللاءات الأربع للحزب تفرمل الخماسية..

في مقابل الحراك الدولي والداخلي الناشط بكلّ الاتّجاهات، جنوباً ورئاسيّاً ونزوحاً سوريّاً، تؤكّد أوساط مطّلعة لـ “أساس” أنّ تحرّكات الدول المعنيّة بخفض التصعيد على الحدود…

إيران وإسرائيل: نتّجه لحرب استنزاف طويلة بالمنطقة

بين ردّ إيران الضخم على قصف القنصلية الإيرانية في سوريا، وردّ إسرائيلي محدود على الردّ الإيراني. تتّجه المنطقة كلّها، بحسب مصادر مطّلعة على أجواء قوى…