لا ينتقص دارَ الفتوى غيابُ البعض من النوّاب

في عمر الطفولة كنت كسائر فتية الحيّ أرتاد مسجد المصيطبة لحفظ آيات القرآن الكريم والمشاركة في أنشطة يقوم بها الإمام تجذب الصبية والشباب إلى المسجد وجلسات العلم خلال الحرب الأهليّة، حيث هم بالخيار ما بين الذهاب إلى المسجد أو الالتحاق بالميليشيات المسلّحة. البيارتة يكرهون الأحزاب وميليشياتها، يرفضون السلاح بكلّ أشكاله، فكان مسجد المصيطبة لنا نحن الصبية والشباب الملجأ الوحيد.

في أحد الأيّام دخلت مسرعاً إلى المسجد للّحاق بصلاة المغرب جماعةً، ففوجئت بعمامة وجُبّة المغفور له العلاّمة الشيخ محمود الشميطلّي موضوعتَيْن على الأرض عند الدرج المؤدّي إلى المكان المخصّص للوضوء. أسرعت إلى حملهما احتراماً وتقديراً، رافضاً أن تكونا على الأرض، منتظراً الشيخ شميطلّي أن ينهي وضوءه كي أناوله إيّاهما.

تقول التعاليم الفقهية إنّ الإمام إن مات خلال إمامته للصلاة يتقدّم من يقف خلفه مباشرة ليكمل صلاة الجماعة وعند انتهائها يعاينون ما حصل للإمام

ما هي إلا لحظات حتى ظهر الشيخ صاعداً على الدرج متّكئاً على الحائط. هو رجل طاعن في السنّ أنهكت كتفيه وقدميه السنوات المليئة بتعليم القرآن وتثقيف الناس. نظر إليّ وعيناه تكادان تخرجان من وجهه، حانقاً صارخاً: “ماذا تفعل يا ابني؟”. لم أستطع الإجابة ولا الردّ عليه. اعتدنا الصمت عندما يتكلّم الشيخ. نستمع إليه من دون نقاش أو جدال. أردف قائلاً: “تترك صلاة الجماعة كي تحمل عمامتي. الجماعة يا ابني أهمّ من كلّ شيء. أهمّ منّي ومن عمامتي”. ناولته العمامة والجُبّة وانسحبت مكسور الخاطر مستحياً ممّا فعلت لإتمام الصلاة.

لا ينتقص لقاء دار الفتوى الذي دعا إليه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان النواب السُنّة أن يغيب البعض بعذر أو لمقاطعة، فأفعال الجماعة من صلاة وغير صلاة عند أهل السُنّة تقوم بمَن حضر. انعقادها لا يسقط بغياب أحد وإن كان الإمام.

تقول التعاليم الفقهية إنّ الإمام إن مات خلال إمامته للصلاة يتقدّم من يقف خلفه مباشرة ليكمل صلاة الجماعة وعند انتهائها يعاينون ما حصل للإمام.

من يتخلّف عن الجماعة يخسر ثوابها، انعقادها قائم حتى يوم الدين. قالها النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم واضحة صريحة لا نقاش فيها. روى الطبراني عن أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ الرَسُولِ أَنَّ النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: “سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعاً فَأَعْطَانِي ثَلَاثاً وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ كَمَا أَهْلَكَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا”.

ليس لقاء دار الفتوى مطلب المفتي دريان، ولا مطلب من يشارك فيه من النواب. لقاء دار الفتوى مطلب سُنّة لبنان، مطلب الناس بل امتحان يجرونه لمن ادّعى أنّه يريد تمثيلهم في السياسة وتحت قبّة البرلمان

لم يدعُ المفتي دريان النواب إلى الالتحاق بتيار سياسي ولا إلى تشكيل حزب يُضاف إلى السلسلة المقيتة من الأحزاب في عزّ أيام الحرب الأهليّة. نبذت دار الفتوى منطق التحزّب والأحزاب ملتزمة بما جاء في تكبيرة العيد، وهي التكبيرة المحبّبة إلى قلب العباد. وفيها أجمل القول: “نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده”. من الطبيعي أنّ لكلّ نائب من النواب رأياً وموقفاً، لكنّ الحقيقة أنّ كلّهم قد ترشّحوا عن المقاعد السنّيّة في مجلس النواب. وإلّا كان الحريّ بهم أن يترشّحوا عن مقعد من المقاعد المخصّصة للأقليّات. من ينكر ذلك يعِش انفصاماً أخلاقياً وسياسياً ودستورياً ووجبت معالجته من عوارض هذا الداء بالدواء.

لقاء دار الفتوى هدفه لمّ الشمل، وهو هدف يطالب به كلّ العباد. قد يرفض البعض ما يُطرَح أو ربّما يستنكر بعضَ ما جاء في البيان. هو حقّ مكتسب ليس فيه جدال، لكنّ رفض اللقاء بحدّ ذاته عمل يلامس الرجس، والرجس من عمل الشيطان. إن كانت الحجّة لأحدهم أنّه يعارض أيّ لقاء طائفي فعليه أن يقف ليقول إنّه لن يلتقي يوماً حزب الله وزعيمه الذي هو من رجال الدين ويضع على رأسه عمامة المشايخ والسيّاد، وعليه أن يقول “لا” لأيّ لقاء في الصرح البطريركي، فالدين لا يقتصر على دار الإفتاء، إلا إذا كان موقفه بالمقاطعة يستند إلى بعض الأجندات.

ليس لقاء دار الفتوى مطلب المفتي دريان، ولا مطلب من يشارك فيه من النواب. لقاء دار الفتوى مطلب سُنّة لبنان، مطلب الناس بل امتحان يجرونه لمن ادّعى أنّه يريد تمثيلهم في السياسة وتحت قبّة البرلمان.

إقرأ أيضاً: مجدّداً.. دار الفتوى خيمة الوطن

يد الله مع الجماعة فما هي مشكلة بعض النواب في اللقاء؟ هل هي مع الجماعة أم مع الله؟ إن كانت مع الجماعة فليحضروا ليحاججوها بما هم مقتنعون به. أمّا إن كانت مشكلتهم مع الله فهنا يُختم الكلام بما جاء في القرآن: “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”. 

يا معشر النواب نقول لكم كما قال ابن عبّاس لسماك الحنفي: “يا حنفي الجماعة الجماعة!! فإنّما هلكت الأمم الخالية لتفرّقها”.

إقرأ أيضاً

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…

“حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟

لماذا تعمّدت طهران ليلة السبت المنصرم الكشف عن كلّ تفاصيل خطة الهجوم الذي أعدّته ضدّ تل أبيب انتقاماً لاستهداف قنصليّتها في دمشق قبل أسبوعين والتسبّب بسقوط قيادات…

بايدن الرابح الأكبر من الضربة الإيرانيّة لإسرائيل

 ربح جو بايدن مزيداً من “المونة” على إسرائيل يمكّنه من لجم اندفاعها العسكري ضدّ إيران بعد توظيفه الدفاع عنها في المشهد الانتخابي. اكتسبت طهران موقع…