قوات بشير الجميّل ومقاومة حزب الله: انتفاضة جيلَين “ثوريَّين” (2)

سوى تشابه ولادة “المقاومتين”، المقاومة المسيحية اللبنانية البشيريّة ومقاومة حزب الله الشيعيّة، من رحم الحروب والاحتلالات والتدمير والتهجير والثارات، يلوح شبهٌ آخر بينهما: انتفاضة كلّ منهما على أبوّةٍ وتقليدٍ سياسي اجتماعي وثقافي في بيئته، على الرغم من اختلاف ظروف وعوامل ووقت انتفاضتيهما، واختلاف الأبوّة والتقليد اللذين انتفض كلّ منهما عليهما.

انتفضت المقاومة البشيريّة القوّاتية على أبوّة حزب الكتائب وعرّابه المؤسّس والد بشير، بيار الجميّل، وعلى التزامهما والتزام المسيحيين المديد بصيغة لبنان 1943 وميثاقه ودستوره الاستقلالي. فبشير الجميّل وجيله اعتبرا أنّ تلك الصيغة وذينك الميثاق والدستور أيضاً صيّرها باليةً مهترئةً خروجُ المسلمين عليها بمناصرتهم المنظمات الفلسطينية المسلّحة في لبنان، وأدّى ذلك إلى كوارث أصابت المسيحيين الذين صاروا يشعرون أنّهم مهدّدون ولم يعودوا أحراراً في ديارهم وما عادت الدولة اللبنانية وجيشها يحميانهم. لذا انتفضت القوات البشيريّة على طوطميّة بيار الجميل الأبويّة شبه المقدّسة، وعلى جيله في حزب الكتائب اللبنانية. وهي في انتفاضتها هذه كسرت المحظور وتحالفت مع “الشيطان”، على ما كان بشير يردّد.

أمّا مؤسّسو حزب الله من الجيل الشيعي الشابّ فكانت انتفاضتهم أشدّ تعقيداً وعمقاً. فهم، شأن القوات البشيرية، نشأوا في خضمّ الحرب الأهلية في لبنان: شطر منهم في رحم أو حاضنة حركة “فتح” الفلسطينية، وشطر آخر كبير نشأ في حركة أمل المحرومين الشيعية لمؤسّسها وعرّابها الإمام موسى الصدر، وشطر ثالث كان في “حزب الدعوة” العراقيّ التأسيس، وهو الشبيه الشيعي لحزب الإخوان المسلمين السنّيّ، المصريّ النشأة والتأسيس.

لم يتوقّف حزب الله منذ نشأته حتى اليوم عن تصفية، وسبقته في ذلك حركة أمل، المنظّمات الحزبية اليسارية والعروبية، واغتيال محازبيها وقادتها

من هذه الشطور الثلاثة نشأت خلايا “حزب الله” السرّية الأولى، وانفصلت عن الحركات والأحزاب الأمّ برعاية جهازيّة كاملة من الحرس الثوري الإيراني الخمينيّ. أمّا الانتفاضة التي انخرط فيها روّاد حزب الله ومحازبوه، فقاموا بها على ما اعتبروه تديّن أهلهم الشيعي التقليدي الذاوي والخاوي. وهي بهذا المعنى انتفاضة دينية وثقافية رساليّة على التقليد، على ما بيّن وضّاح شرارة في كتابه البحثيّ “المدينة الموقوفة” (“دار المطبوعات الشرقية”، بيروت، 1985)، وتحديداً في الفصل الرابع بعنوان “الملتزم الرساليّ: ولادة من غير أب”. والخلاصة أنّ “ما يصبو إليه الرساليون الآخذون بولاية الفقيه، هو أن يَلدوا فقهاءَ على مثالهم، وعلى مثال ولادتهم الروحية والثقافية، ومثال مَنْ ولدهم شخصيات متكاملة. فيستيقظ المجتمع في نهاية مطاف هذه الولادات المتعاقبة وقد تحوّل (…) إلى الحقّ، وأخذ بزمامه وأعنّته طليعيون لم يلحق بهم وزر، وولّدوا أنفسهم بأنفسهم من غير دنس، سوى اتّخاذهم هوى ولادَتِهم إلهاً” خلاصيّاً.

والولادة هذه سرعان ما تمخّضت في الواقع عن انشقاقٍ دمويّ في خضمّ الصراع الإيراني الخمينيّ والسوري الأسديّ على تركة الإمام موسى الصدر “المغيَّب”، فانشقّت عن حركة أمل، “أمل الإسلامية” بقيادة حسين الموسوي. وبعد خوض حركة أمل نبيه برّي حربها على “الزّمر العرفاتيّة” في المخيّمات الفلسطينية بلبنان (1984 – 1986) وتدميرها برعاية النظام السوري، نشبت حرب أهلية شيعية – شيعية بين “أمل” المنهكة والمفكّكة وبين حزب الله. وللحرب هذه مثيلتها المسيحية بين جيش ميشال عون وقوات سمير جعجع اللبنانية.

لكنّ حزب الله لم يصِر إلى ما صار إليه ونعلمه اليوم لولا تولّي الحرس الثوري الإيراني صناعته وتنظيمه وتأطيره وتجهيزه وتمويله، وتزويده بالعقيدة الدينية الخلاصية، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، وحده من دون سواه. وقد غيّر هذا كلّه شخصيّة المجتمع الشيعي التاريخية في لبنان تغييراً جذرياً، فولّدها ولادةً جعلت الشيعة اللبنانيين كتلة أهليّة متراصّة ومجتمعاً نقيضاً منكفئاً. وعلى قدر ما استفاد حزب الله من “الحرّيات الطائفية” اللبنانية في تمكين قوّته، تبرّأ من الاجتماع اللبناني إلّا اسمياً وبصفته “حزب مقاومة وتحرير” للتسلّط على الآخرين. وهكذا ما عاد السواد الأعظم من الشيعة يتعرّفون على أنفسهم ومجتمعهم وتاريخهم إلا على هذا النحو والمثال.

 

تصفيات واغتيالات

هناك شبه ثالث بين القوّات البشيرية وحزب الله: كلٌّ منهما أقدم على حملات تصفية دموية لمنظمات ومجموعات مسلّحة وأحزاب في مناطق سيطرته. استمرّت حملات بشير الجميّل وقوّاته لـ”توحيد البندقية (البنادق) المسيحية” حتى استطاعا بالقتل والاغتيال تطهير مناطق المسيحيين من مناوئيهما.

عاشت القوات البشيرية بداية مأساتها في لحظة اغتيال بشيرها في عزّ فرحتها ونشوتها مع المجتمع المسيحي بوصوله إلى سدّة رئاسة الجمهورية في أحلكِ أيّام دمار لبنان وخرابه في المناطق الإسلامية

بدوره لم يتوقّف حزب الله منذ نشأته حتى اليوم عن تصفية، وسبقته في ذلك حركة أمل، المنظّمات الحزبية اليسارية والعروبية، واغتيال محازبيها وقادتها، حتى أنجز تفرّده بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي واحتكارها. وبذلك تطهّرت الطائفة الشيعية وانقسمت إلى ما سُمّي “الثنائي الشيعي” وحده من دون سواه. وصار حزب الله حزب “المقاومة والتحرير” في سنة 2000، وصارت “أمل” حركة تعتاش على ريوع خزينة الدولة اللبنانية وخدماتها.

وعاشت القوات البشيرية بداية مأساتها في لحظة اغتيال بشيرها في عزّ فرحتها ونشوتها مع المجتمع المسيحي بوصوله إلى سدّة رئاسة الجمهورية في أحلكِ أيّام دمار لبنان وخرابه في المناطق الإسلامية. وبعد ذلك تواصلت فصول انشقاقات القوّات ومآسيها الحربية في الشوف ودير القمر وبحمدون وسوق الغرب وشرق صيدا. هذا فيما كانت نوى (جمع نواة) حزب الله الخمينيّ السرّية تولد وتتكوّن من رحم الدمار والخراب، ورحم عمليات الاستشهاد الانتحاري المدوّي ضدّ القوّات المتعدّدة الجنسيّات، الأميركية والفرنسية، وعمليات خطف الأجانب في بيروت، تمهيداً لما سمّي “انتفاضة 6 شباط 1984” التي أسقطت احتمال وضع خاتمة للاحتلال الإسرائيلي بما سُمّي “اتفاق 17 أيار 1983” بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية.

وفيما كانت القوات اللبنانية تنكفئ وتتصدّع ويذوي مشروعها البشيريّ الخلاصي، بدأ حزب الله مسيرته الكبرى. وهناك من يقول إنّ قوات بشير الجميّل وإسرائيل هما من مهّدا الأرض الخراب التي نشأ عليها وترعرع فيها حزب الله، متوسّلاً مقاومة إسرائيل واحتلالها أداةً لسيطرة إيران على لبنان. فإسرائيل في عقيدة إيران الخمينيّة والخامنئيّة وصنيعتها حزب الله، ليست سوى “عدوّ وظيفي” أو “وظائفي” تتوسّله الجمهورية الإسلامية وتنافسه لإخضاع المشرق العربي والاستبداد به، وربّما احتلاله على نحوٍ استيطانيّ داخلي يتفوّق على الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين.

أخيراً هناك شبه بين القوات اللبنانية البشيريّة وحزب الله: عبادتهما شخص القائد الأسطوري الملهم والخارق، شبه المقدّس دنيويّاً في الحالة البشيرية، ودنيوياً ودينياً وإلهياً في حالة حسن نصر الله.

 

عجز لا شفاء منه؟

في مرآة حروب لبنان الداخلية والإقليمية، وما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وثورات الربيع العربي في سوريا، وصولاً إلى اليمن شرقاً وليبيا غرباً، يبدو المشرق العربي اليوم أرض سيبة وخراب. وقد يكون عجز هذه البلدان عن بناء حياة سياسية دستورية تمكّنها من تصريف تناقضاتها والخلافات بين جماعاتها تصريفاً سياسياً في دول متماسكة، عجزاً شبه بنيوي أو تكويني، وليس عارضاً أو عابراً.

إقرأ أيضاً: قوّات بشير الجميّل ومقاومة الحزب: أبناء خراب المشرق (1)

وربّما يكمن هذا العجز التاريخي الحديث في إنشاء القوى الدولية الكبرى في هذه المنطقة من العالم دولاً رغماً عن إرادات بعض جماعاتها، وتأييد وترحيب جماعاتها الأخرى. فنشأت هذه الدول هشّة، قلقة ومضطربة ومتنازعة ومشرّعة على حروب أهلية.

أمّا قوة حزب الله في لبنان وسواه من البلدان المشرقية، التي يتوعّد بها من يريد ويشاء، فهل يُكتبُ لها مصير أفضل من سواها المستمَدّة من سلطان السلاح والإخضاع والاستبداد؟ وهل تكون قوّته شيئاً غير قوّة للخراب وعلى الخراب؟

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…