فشل بايدن يُذكر بكسينجر، شولتز ، وبيكر

حاجة الولايات المتحدة الأميركية لحلفاء جراء العدوان الروسي على أوكرانيا دفعها الى تغيير سياستها الخارجية. فخلال العامين الماضيين من ولاية الرئيس جو بايدن وقعت إساءة ضد المملكة العربية السعودية وهي حليف تاريخي. كان التعامل يتسم بعجرفة مع الأصدقاء الآخرين في الشرق الأوسط. فقد جرى تهميش حلفاء الأمر الواقع لصالح “الدول الضعيفة والفوضوية”. لقد ظهر أن افتراضات السياسة الخارجية كانت غير سليمة. ما حصل كان على النقيض مما مثَلَهُ ثلاثة وزراء خارجية من الحزب الجمهوري خلال المرحلتين الوسطى والمتأخرة من الحرب الباردة مع المعسكر الإشتراكي. الوزراء هم: هنري كيسنجر، جورج شولتز، وجيمس بيكر. الثلاثة كانت نجاحاتهم لا تنفصم عن فهمهم لأميركا كدولة قومية، وهي نظرة إلى العالم تضع احتياجات الولايات المتحدة قبل كلّ شيء.

خلال العامين الماضيين من ولاية الرئيس جو بايدن وقعت إساءة ضد المملكة العربية السعودية وهي حليف تاريخي

كيسنجر اللاعب الماهر

أوّل الثلاثة هو كيسنجر. كان سيّد رقعة الشطرنج الجيوسياسية. في العام 1971 نظّم بعناية ونجاح اقتراب الولايات المتحدة من الصين الشيوعية، بهدف موازنة النفوذ العالمي للاتّحاد السوفياتي، والذي أبرم معه بعد عام  اتفاقاً للحدّ من الأسلحة النووية.

أرفق كيسنجر نجاحه هذا بآخر ففي العام 1973،نجح في فكّ تحالف مصر مع سوريا ضدّ إسرائيل، ووضع الأساس لسلام منفصل بين القاهرة وتل أبيب. لقد أدرك كيسنجر ببراعة وبالحس الاحتياجات النفسيّة لقادة من طراز رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي والرئيس المصري أنور السادات، ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير ولولا هذه البصيرة لكانت نجاحاته محدودة.

شولتز الواقعيّ

ترجم شولتز الرؤية الجيوسياسية للرئيس ريغان إلى واقع دبلوماسي دقيق. لقد أطلق نداءات قاسية جعلت المصالح فوق القيم. أحدها كان قراره بالحدّ من مبيعات الأسلحة لتايوان لتهدئة بكين، لقد قدم خيار الاستقرار على الصراع الإيديولوجي. وردّاً على الرفض السوفياتي لسحب صواريخ SS-20 الباليستية من أوروبا في عام 1983، ساعد شولتز في نشر صواريخ بيرشينغ 2 في ألمانيا الغربية كخطوة موازية. وكان القرار رسالة إلى السوفيات بأنّه لا يمكن فصل أوروبا الغربية عن الولايات المتحدة. وقد عارض بذلك أيضاً رغبات أكثر من مليون متظاهر في مسيرة السلام في ألمانيا الغربية.

لكن جرى التخفيف من السياسة الواقعية لشولتز بإزاء المخاوف الإنسانية. فقد دافع عن اتفاقية هلسنكي للأمن والتعاون في أوروبا لعام 1975، التي حثّت الكتلة الشرقية على احترام حقوق الإنسان، وطالب الاتحاد السوفياتي بالامتثال لها. لقد أخذ زمام المبادرة في تقديم المساعدات الطارئة للقرن الإفريقي الذي دمّرته المجاعة في منتصف الثمانينيّات، وأقنع البيت الأبيض برفض تقديم المساعدة لمقاتلي رينامو في موزمبيق بسبب انتهاكاتهم لحقوق الإنسان. لقد فهم أنّ السياسة الخارجية تتطلّب سلّم أولويّات للاحتياجات، وأنّ العمل الأخلاقي له مكانه في هذا التسلسل الهرمي، وإن لم يكن مكانه دائماً في أعلى السلّم.

كانت السياسة الخارجية للرئيس كارتر مدمّرة ذاتيّاً، فواقعية الحرب الباردة لمستشار الأمن القومي زبغنيو بريجيسنكي كانت تتعارض في كثير من الأحيان مع الأجندة القانونية لوزير الخارجية سايروس فانس

بيكر صانع الصفقات

كان بيكر ماهراً في صنع الصفقات. تفاوض على اتفاقية “اثنين زائد أربعة” لعام 1990، التي سمحت بإعادة توحيد ألمانيا، وجلبت عقوداً من الاستقرار إلى أوروبا. وفي العام نفسه، شكل تحالفاً من 35 دولة لطرد القوات العراقية من الكويت. ولم يكن بيكر لينجز أيّاً من هذه الأمور بدون نظرة ثاقبة شكسبيرية في شخصيّات محاوريه ودوافعهم. كان قادراً تحديداً على التلاعب بهم لأنّه فهمهم جيّداً.

أدّت نهاية الحرب الباردة إلى شيوع فكرة خاطئة مفادها أنّ الولايات المتحدة لم يعد لها أيّ أعداء. ولذا عليها أن تخضع سياستها الخارجية حصرياً لتوجّهات قيم عالمية مثل حقوق الإنسان. وتعود جذور هذا التراجع عن المصلحة الوطنية إلى إدارة الرئيس جيمي كارتر، التي جاءت بعد كيسنجر وقبل شولتز.

السياسة الخارجيّة بين كارتر وترامب

كانت السياسة الخارجية للرئيس كارتر مدمّرة ذاتيّاً، فواقعية الحرب الباردة لمستشار الأمن القومي زبغنيو بريجيسنكي كانت تتعارض في كثير من الأحيان مع الأجندة القانونية لوزير الخارجية سايروس فانس . وبمعارضة الديكتاتوريات اليمينية الموالية لأميركا ودعم الجناح اليساري المناهض لأميركا، قوّض كارتر حلفاء بلاده في كلٍّ من إيران ونيكاراغوا.

أمّا الافتراض الأوّلي للرئيس بيل كلينتون فكان أنّ الجغرافيا الاقتصادية قد حلّت محلّ الجغرافيا السياسية. لذا كان  التقدير أنّ أعداء أميركا الرئيسيين هم من نوع عالمي: الفقر، وندرة الموارد، وما إلى ذلك. ثمّ وقعت في التسعينيّات حروب البلقان، التي تدخّل فيها كلينتون، فكانت كارثة في مجال حقوق الإنسان، لكنّها لم تكن التهديد الوجودي الذي تخيّله الليبراليون الدوليون. كانت الولايات المتحدة قادرة على التدخّل لأنّ التهديدات الاستراتيجية الحقيقية، هي في الصين الصاعدة وروسيا وتنظيم القاعدة، وكانت هذه القوى “جنينية”.

كانت السياسة الخارجية لجورج بوش الابن مأساة بحدّ ذاتها لأنّها ركّزت حصرياً على الإرهاب الإسلامي وحروب الشرق الأوسط على حساب احتواء النفوذين الروسي والصيني المتزايدين. وغالباً ما كانت إدارة باراك أوباما غير مرتاحة إلى إبراز القوّة الأميركية، فيما كانت إدارة دونالد ترامب وعلى الرغم من بعض الغرائز الجيّدة، عبارة عن فوضى تنظيمية واندفاعيّة.

فقدان الحكمة السياسيّة

لقد ارتقى كيسنجر وشولتز وبيكر إلى مواقعهم في سياق الجدّية الفكرية العامّة. غابت تلك الثقافة منذ عقود، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى شيء حدّده كيسنجر في أحدث كتبه “القيادة Leadership“. فقد كتب أنّ الجامعات لا تنتج سوى “نشطاء وفنّيّين” يفتقرون إلى الحكمة العامّة بسبب هواجسهم الخاصّة. لقد حوّلوا هواجسهم إلى أيديولوجيا، مع القليل من الاهتمام بالمصلحة القومية كما يفهمها ملايين الأميركيين. إنّهم يربطون الحديث عن الجغرافيا السياسية بالسخرية، وهو ما يفسّر خفض إدارة بايدن مرتبة الحلفاء وهم مهمّون، مثل المملكة العربية السعودية وسنغافورة.

يساهم انحسار الثقافة الفلسفية والتكنوقراطية في واشنطن في تدهور السياسة الخارجية الأميركية. مرّة أخرى، يمكن إرجاع هذا إلى الجامعات. ما يميّز كيسنجر وشولتز وبيكر كمجموعة أنّ من المستحيل تصنيفهم وفقاً للمعايير الأيديولوجيّة الصارمة اليوم. كانوا جميعاً واقعيين، لكنّهم كانوا من النوع المرن للغاية، ومن الطراز الدولي الذي بات مفتقداً في واقعية ما بعد الحرب الباردة التي تضع “ضبط النفس” بشكل خاطئ على قاعدة التمثال.

إقرأ أيضاً: فشل العقوبات الغربيّة على روسيا

علاوة على ذلك، دعا كلٌّ منهم إلى احترام حقوق الإنسان من دون تحويلها إلى أداء مغرور. لقد أدّى انفتاح كيسنجر والرئيس ريتشارد نيكسون على الصين، إلى خلق سياق جيوسياسي أكثر استقراراً، وإلى تعزيز التنمية الاقتصادية التي انتشلت مئات ملايين الناس من الفقر. كما جلبت مهارات بيكر التفاوضية الاستقرار إلى وسط أوروبا، وهو ما سمح بتوسيع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. كان اهتمام شولتز بحقوق الإنسان أكثر وضوحاً، حتى عندما أدرج بهدوء إنجازاته الإنسانية في الحرب الباردة في أوروبا وإفريقيا ضمن إطار جيوسياسي أكبر.

كان لدى هؤلاء العمالقة الثلاثة أخطاؤهم. لكنّ احترامهم للمصلحة الوطنية كان مطلقاً. لم يكونوا من دعاة العولمة أو نشطاء على مستويي المناخ وحقوق الإنسان. لقد رأوا القوّة الأميركية على أنها هي الخير الأسمى في عالم مستعصٍ على الحلّ، حيث كانت المسألة دائماً هي الدفع إلى حافة الممكن.

*روبرت كابلان ـ وول ستريت جورنال

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

إقرأ أيضاً

فريدمان: إيران أخطأت.. وعلى إسرائيل ألا تحذو حذوها!

حذّر المحلل والكاتب السياسي الأميركي توماس فريدمان من “الانبهار بالطريقة التي أسقطت بها الجيوش الإسرائيلية والأميركية وغيرها من جيوش الحلفاء كل الطائرات الإيرانية بدون طيار…

إيكونوميست: إسرائيل وحيدة وضعيفة.. ومعركة غزة بداية الصراع على مستقبلها

في عدد خصّصته للحرب الإسرائيلية على غزة بعنوان “إسرائيل وحيدة”، ووضعت فيه صورةً لعلم إسرائيلي يتعرّض لرياح شديدة على غلافها، وصفت مجلّة إيكونوميست البريطانية الوضع…

ريتشارد هاس: مستقبل إسرائيل في السلام… لا الحرب

“لم يكن لإسرائيل الحقّ في الردّ على هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) فحسب. بل كان من الضروري لها أيضاً إظهار أنّ حماس ستدفع ثمناً باهظاً…

مركز أبحاث أميركيّ: خطة إيران “الكبرى” المقبلة… إسقاط نظام الأردن

“إسقاط النظام في الأردن الآن، ومهاجمة إسرائيل من الشرق بينما تظلّ الأخيرة مشغولة بقوات المقاومة المدعومة من إيران في لبنان وسوريا وغزة، إفشال المشروع السعودي…