إليزابيت الثانية… ترحل في وقت غير مناسب

لأنّها احترمت الدستور والتقاليد المعمول بها في بريطانيا ولم تتجاوزها قيد أنملة، ولأنّها احترمت نفسها أوّلاً وأخيراً، صدم موت الملكة إليزابيت الثانية المواطنين البريطانيين. لم يخفِ هؤلاء – على الرغم من أنّ الملكة امرأة عجوز تعاني من مشاكل صحيّة منذ فترة طويلة – حزنهم الشديد لحظة الإعلان رسميّاً عن الوفاة.

دموع وذكريات في (PUB) لندني

كنت شخصيّاً شاهداً على ذلك في “باب” (PUB)  لندني حيث رأيت رجالاً كباراً في السنّ دمعت أعينهم وشابّات يعزّي بعضهنّ بعضاً فور إعلان قصر باكنغهام رسميّاً عن الوفاة.

افتقد البريطانيون ملكتهم التي غادرت العالم في سنّ 96 بعد سبعين عاماً على العرش. شعروا بمفاجأة الفراغ. راحوا يتذكّرون أنّ الملكة ذات الصلاحيّات المحدودة جدّاً التي تلتقي رئيس أو رئيسة الوزراء مرّة في الأسبوع، تعني لهم الكثير على الرغم من أنّها لا تحكم. ليس مسموحاً للملكة أكثر من توجيه تحذيرات أو إعطاء تشجيع أو نصيحة. السلطة في مكان آخر… لدى رئيس الحكومة خصوصاً، فيما القضاء يتمتّع باستقلال كامل، كما الحال في البلدان الراقية التي تحترم نفسها. أمّا محاسبة الحكومة ففي مجلس العموم (البرلمان) حيث معارضة وموالاة… ولا وجود لمحاصصة!

غادرت إليزابيت الثانية في وقت غير مناسب، في وقت تجد المملكة المتّحدة نفسها غارقة في أزماتها

تذكّر البريطانيون، خصوصاً الذين تقدّم بهم العمر، أنّ إليزابيت الثانية، التي حطّمت الرقم القياسي في البقاء على العرش بين ملوك بريطانيا، استطاعت الإشراف على هبوط آمن لبريطانيا من دولة عظمى إلى دولة عاديّة، بل أقلّ من عاديّة لولا امتلاكها مقعد العضويّة الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والسلاح النوويّ.

 

ملكة الحكمة والصمت

بوجود الملكة إليزابيت الثانية، كان الشعور الدائم بين البريطانيين بأنّ هناك مرجعيّة تتمتّع بالحكمة في البلد، وأنّ هذه المرجعية تمتلك ما يكفي من الخبرة لوضع القطار البريطاني في الطريق الصحيح بعيداً عن أيّ تهوّر. كانت الملكة الصامت الأكبر دائماً. لا تظهر على وجهها أيّ مشاعر. لم يعرف أحد موقفها الحقيقي من بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو من خروجها منه. حصل الخروج (بريكسيت) فعلاً صيف العام 2016 إثر استفتاء شعبي تحكّم به سياسيون شعبويون يتقنون الغوغاء.

كان على رأس هؤلاء بوريس جونسون الذي خرج أخيراً من موقع رئيس الوزراء تاركاً لخليفته ليز تراس حقيبة ضخمة مليئة بكلّ نوع من الأزمات الداخلية والخارجية… الاقتصاديّة والسياسيّة. بين هذه الأزمات مستقبل اسكتلندا، الساعية إلى الاستقلال عن المملكة المتحدة، بعد معاناتها من نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

لا شكّ في أنّ المؤسّسة الملكيّة البريطانية ستحافظ على نفسها في عهد الملك الجديد تشارلز الثالث، لكنّ الأكيد أنّ تشارلز لا يتمتّع بقوّة الشخصية التي كانت لدى والدته ولا بخبرتها السياسيّة، هي التي عايشت 15 رئيساً أو رئيسة للوزراء في بريطانيا نفسها، و14 رئيساً أميركياً وكلّ رؤساء الجمهورية الخامسة في فرنسا وعظماء في حجم ونستون تشرشل وشارل ديغول وجون كينيدي وجواهر لال نهرو.

شاهدة تراجع الإمبراطورية

في سبعين سنة، كانت إليزابيت الثانية، التي تولّت العرش في العام 1952، ولم تبلغ السادسة والعشرين من عمرها بعد، بمنزلة شاهد على تراجع الدور البريطاني في العالم. وهو تراجع بدأ مع استقلال الهند جوهرة التاج البريطاني أواخر أربعينيّات القرن الماضي، ثمّ فشل العدوان الثلاثي (البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي) على مصر بعد تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس عام 1956. كان كافياً أن يطلب الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور من وزير خارجيّته جون فوستر دالاس الاتّصال برئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن ودعوته إلى سحب الجيش البريطاني من منطقة قناة السويس حتّى يتوقّف العدوان، وينسحب الإسرائيلي، غصباً عنه، من سيناء، والبريطاني والفرنسي من مدن القناة كالإسماعيليّة وبورسعيد.

لم يغِب مثل هذا الحدث الكبير عن ملكة بريطانيا التي كانت في مقدَّم الذين استوعبوا أنّ موازين القوى في العالم تغيّرت بعد الحرب العالمية الثانية، وأن ليس مسموحاً لبريطانيا الذهاب إلى الحرب من دون إذن أميركيّ.

بريطانيا القلقة

في غياب الملكة إليزابيت الثانية، التي اعتقد البريطانيون أنّها ملكة إلى الأبد، أيقن هؤلاء أنّ بلدهم ليس على ما يرام. بعد يومين من استقبال الملكة في قصر بلمورال الاسكتلنديّ رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس، رحلت إليزابيت الثانية. ما لم يرحل هو الأزمات تتقدّمها أزمة الوقود وسعره مع اقتراب فصل الشتاء. ستكون عشرات آلاف العائلات عاجزة عن تسديد فاتورة الوقود هذه السنة. لم تجد تراس سوى الكلام عن تخصيص 150 مليار جنيه استرليني لتجميد سعر وقود التدفئة في السنتين المقبلتين.

ما نوع المشاكل التي ستلد من تخصيص مثل هذا المبلغ في الموازنة للسيطرة على سعر الوقود المخصّص للتدفئة؟ كيف ستغطّي الحكومة هذا النوع من النفقات فيما تعِد تراس بعدم زيادة الضرائب؟

غادرت إليزابيت الثانية في وقت غير مناسب، في وقت تجد المملكة المتّحدة نفسها غارقة في أزماتها. زاد البريطانيون قلقاً على بلدهم بعدما ارتفعت نسبة التضخّم إلى نحو عشرين في المئة، بينما زادت الحاجة إلى العمالة الأجنبية المتخصّصة التي كانت تأتي من دول الاتحاد الأوروبي. هل مَن يستطيع طرح موضوع “بريكسيت” مجدّداً ومواجهة الواقع الأوروبي بدل الهرب منه؟

تحتاج بريطانيا إلى حكمة الملكة الراحلة وخبرتها في وقت ليس ما يشير إلى أنّ حرب أوكرانيا، وهي حرب أوروبيّة لا سابق لها منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، ستنتهي قريباً. كذلك ليس ما يشير إلى أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستطيع الاعتراف بهزيمته الأوكرانيّة بدل اللجوء إلى مزيد من التصعيد.

إقرأ أيضاً: الرئيس عبّاس بمقياس الملكة إليزابيث

فاجأت وفاة إليزابيت الثانية البريطانيين الذين لم يتعوّدوا على العيش من دونها والاستغناء عن حضورها.

في النهاية، هناك حال فراغ في بريطانيا. لا الملك تشارلز الثالث نسخة عن والدته، ولا ليز تراس نسخة عن مارغريت تاتشر التي استطاعت إعادة الحياة إلى اقتصاد بريطانيا وإيجاد دور جديد لها ذي حجم متوسّط في الساحة الدوليّة، حيث كانت في الماضي لاعباً أساسياً يتمتّع بوجود في القارّات الخمس من هذا العالم!

إقرأ أيضاً

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…

“حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟

لماذا تعمّدت طهران ليلة السبت المنصرم الكشف عن كلّ تفاصيل خطة الهجوم الذي أعدّته ضدّ تل أبيب انتقاماً لاستهداف قنصليّتها في دمشق قبل أسبوعين والتسبّب بسقوط قيادات…

بايدن الرابح الأكبر من الضربة الإيرانيّة لإسرائيل

 ربح جو بايدن مزيداً من “المونة” على إسرائيل يمكّنه من لجم اندفاعها العسكري ضدّ إيران بعد توظيفه الدفاع عنها في المشهد الانتخابي. اكتسبت طهران موقع…