مشروع “السُنّيّة السياسية” المديني: التنوع والتعدّد لمواجهة السلاح (2)

من الضروري أن يستمر المشروع السياسي والاجتماعي الهادئ بأبعاده الاقتصادية والثقافية، ذاك الذي قادته “السُنّية السياسية” اللبنانية قبل الحروب (1975 – 1990) وبعدها، ويحافظ دائمًا على سلميتة ومدنيته لحماية ما تبقّى من تنوع وتعدد في عاصمة لبنان بيروت.

 

السلاح يلغي التعدد والتنوع

فحَمَلَة المشروع وأهله أصروا في حقبة حالكة في التاريخ الحديث، يوم قرر طرف لبناني الدفاع عن سلاحه “المقدس” بالسلاح، على حماية بيروت، بل لبنان كله، بمواجهة استسهال لجوء أهل السلاح إلى العنف للقضاء على التنوع والتعدد اجتماعيًا وثقافيًا وسياسًا. ورفض أهل مشروع التعدد والتنوع الانجرار إلى العنف الأهلي المسلّح جملةً وتفصيلًا، لا باسم “حرمان” الأرياف والأطراف اللبنانية وإهمالها تارة، ولا باسم المقاومة والتحرير طورًا.

ولئن كان البعض يتندر اليوم بأن مناصري المشروع المديني، وبتعريف أدق “أهل السُنّية السياسية”، لا يحسنون القتال، واعتبار هذه الميزة نقيصةً فيهم وفي قادتهم، فإن هذا لم يدفعهم إلى الرد باللجوء إلى السلاح، لرد تلك النقيصة، حسب قيم أهل السلاح والترويع. فمن المفروغ منه لدى أهل المدن السنية أن السلاح يعني، في هذه اللحظة تحديدًا، قتل ما تبقّى من أمل في لبنان متنوع ومتعدد وقادر على تغذية الأمل بعودة الإشعاع اللبناني قويًا باهرًا في الداخل والجوار على السواء.

“السُنيّة السياسية” المدينية لم تكن طاهرةً مطهَّرةً على الدوام. هي لبست سيئاتها بيدين عاريتين وتحت ضوء الشمس. ففي لحظات صعودها وانتصارها وصياغة تسوياتها، أهملت عناصر قوتها الأصلية

إهمال سنة الأطراف

من فضائل المشروع المديني هذا، أنّه غالب الرغبة اللبنانية الأهلية الدائمة في اللجوء إلى السلاح. وبصرف النظر عن موجبات لجوء الطرف الآخر إلى السلاح ومبرراته، فلا شك في أنّ الضعف الذي اعترى بعض القوى السياسية، فجعلها تحسب أنها قادرة على التغيير بقوة السلاح، تظل نقطة سوداء في سجلها وتاريخها، لكنها تركت على حجارة بيروت علامة بيضاء، كرمز لرفضها الانجرار إلى منطق السلاح.

“السُنيّة السياسية” المدينية لم تكن طاهرةً مطهَّرةً على الدوام. هي لبست سيئاتها بيدين عاريتين وتحت ضوء الشمس. ففي لحظات صعودها وانتصارها وصياغة تسوياتها، أهملت عناصر قوتها الأصلية: سنة عكار والبقاع وإقليم الخروب. والأخير، إن كان قد حاز مواقع له في الإدارة والقوى الأمنية، فإن ذلك كان صنيعة الرئيس كميل شمعون الذي استقوى بهم على “البورجوازية البيروتية” يوم عاندته، ولم تكن مُتاحةً له. والحق أن تجاهل “سنّة الأطراف” في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة، أهّل أرحامًا يخرج منها من يشقُّ عصا الطاعة. وهؤلاء ما كان لهم أن يخرجوا عن طوع الطائفة لو يتوافر حيزًا سُنّيًا صلبًا ومتماسكًا للتنوّع والوحدة في آن، أو للتنوع داخل الوحدة.

حصل نقيض من ذلك: فإلى إهمال “أسنان” المناطق، لم يولد حتى الساعة مشروع جديد يستأنف ماضيين، قديم وحديث: لبنان ما قبل الحرب، ولبنان حقبة رفيق الحريري بعدها.

 

لا للاعتكاف عن السياسة

وربما جمع الماضيين ما عاد يُفيد. ذلك أنّ المشروع المأمول مدعوٌ إلى خوض مواجهة سياسية ديموقراطية مع أوزانٍ وأحجامٍ سياسية تتظهر في ثنائيتين: واحدة شيعية، والأخرى مسيحية مارونية. وأحيانًا يبدو أن هناك ثالثة، أي درزية.

صحيح جدًا أن لا ولادة جديدة تُؤمَّل، طالما الاعتكاف عن السياسة هو العنوان السني العريض اليوم. وهذا سجال يتوخى نقاش سعد الحريري، ونهاد المشنوق، وفؤاد السنيورة، وبهية الحريري بعد عودة تمام سلام عن تقاعده وآخرين، ومعهم كل النُخب الفكرية والاقتصادية التي تسكن المُدُن. أبعد من هؤلاء يمكن سؤال “اليسار” أيضًا: ماذا يفعل حاليًا غير الاشتغال بقضايا المُجتمع المدني؟

مرة أخرى، إن طلب التسوية لقيام هذا “المشروع المديني” الذي كان قائمًا، ليس نقيصةً، بل هو فضيلة. لكن هذا الطلب لا يعني في حال من الأحوال تبرير الانكفاء والاصطفاف في خانة الانتظار. ففي موضوع الانتخابات النيابية يُلحّ السؤال على هؤلاء: لماذا الاعتكاف عن خوض الاستحقاق، ولماذا الانسحاب منه، ومن نصح بهذا؟ إذا كان ممكنًا سؤال كهذا، فالسؤال القرين الذي ينسلُّ من سابقه: ما العمل الآن؟

 

التجربة المنقوصة

هذه عناوين عامة، وفي التفاصيل ثمة الكثير مما يمكن إيراده، إنما يجدر التنبه إلى أن الوقت قد ضاق كثيرًا. ومن فضائل هذا المشروع أنه شكّل أرضيةً استثنائيةً في لبنان لا تتوسل العنف  طريقًا للتغيير. وهذا كان لدى للبنانيين على الدوام حُلمًا صعب التحقق. فالبلد الذي لم يتجاوز عمره التكويني القرن، أُغرِقَ على امتداد سنواته المئة في حروب أهلية وأخرى “للآخرين” ملبنَنة. فلم يكن ثمة أسهل من امتشاق السلاح في لبنان، ردًا على خصم أو رغبةً في تغيير.

إقرأ أيضاً: مُدن “السنّيّة السياسيّة” وكراهية الطوائف

صحيح أن هذا البلد نشأ في منطقة متوترة من العالم، ولم يحظَ بفترة سماح كافية لتكون حياته السياسية، المحلية أو الداخلية، تليق بدولة معاصرة. فما أن أعلن لبنان الكبير، ثم استقل عن الانتداب الفرنسي بتسوية تاريخية بين تيارين كبيرين، مثّلهما رئيس الاستقلال الأول بشارة الخوري، ورئيس حكومة الاستقلال الأولى رياض الصلح، حتى جوبه البلد الحديث النشأة بمشروع إسرائيلي إلى جواره، ثمّ لاحقاً ولو ببعد زمني نشوء “حقيقة” حماية النظام السوري من لبنان. هاتان الحقيقتان وضعا أُسُس نشوء لبنان على المحك.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…