مذكّرات صائب سلام (7): هكذا هَدَمَ الخُمينيون “قِلَاعَ السُنّة”

2022-08-26

مذكّرات صائب سلام (7): هكذا هَدَمَ الخُمينيون “قِلَاعَ السُنّة”

مدة القراءة 11 د.

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من فرسان استقلاله.

بعد 6 حلقات عن الجزأين الأوّل والثاني، ينشر “أساس” على حلقتين أبرز ما تضمّنه الجزء الثالث والأخير من “أحداث وذكريات” الرئيس صائب سلام (1982-1999).

تتمحور الحلقة الأولى حول انتخاب أمين الجميّل رئيساً للجمهوريّة، وكيف بدأ “الخمينيون” بغطاء من حافظ الأسد، بخطف الأجانب في بيروت، وكيف تصاعد النفوذ الشيعي في بيروت بعد انتفاضة 6 شباط 1984، وصولاً إلى قصف “بيت المصيطبة” مرّتين بصواريخ… باعتباره واحداً من “قلاع المسلمين السُنّة”.

يبدأ الجزء الثالث من مذكّرات الرئيس صائب سلام من الأيّام التي تلت اغتيال ثمّ تشييع الرئيس بشير الجميّل في أيلول عام 1982، وتستمرّ بزخم حتى مطلع شباط 1985، حين غادر الرئيس سلام مدينة بيروت ولبنان بكامله إلى منفاه “الاختياري القسري” في جنيف بسويسرا، كما قال بنفسه.

يذكر سلام أنّ الأنباء التي بدأت تتكشّف عن المأساة الكبرى، وهي مجازر “صبرا وشاتيلا”، كانت من أبرز الأسباب التي دفعته إلى أن يبادر فيقرّر ترشيح أمين الجميّل

المسيحيون ليس أهلاً للحكم

دعا الرئيس سلام إلى اجتماع إسلامي موسّع حضره رؤساء الحكومات السابقون ما عدا الرئيس رشيد كرامي، وحضره وليد جنبلاط ونبيه برّي، وأغلب الوزراء والنوّاب المسلمين من سُنّة وشيعة ودروز، وقال فيه: “يجب أن نكون نحن أصحاب المبادرة، نحن أي المسلمون، فنحن نقرّر من يكون رئيساً للجمهورية (بين شمعون وأمين الجميّل) قبل أن تجتمع الكتل”.

يذكر سلام أنّ الأنباء التي بدأت تتكشّف عن المأساة الكبرى، وهي مجازر “صبرا وشاتيلا”، كانت من أبرز الأسباب التي دفعته إلى أن يبادر فيقرّر ترشيح أمين الجميّل “مع إدراكي أنّ الذين قاموا بهذه العمليّة هم فريق من الكتائب بحماية من الإسرائيليّين على الأرجح، فقد أحببت أنْ أبدأ بنفي ذلك لأنّنا مقبلون على مراحل فيها الكثير من المصاعب، ولا بدّ من تبريد الأجواء المسيحيّة الإسلاميّة، فتحمّلت المسؤولية على عاتقي”.

وفي مكان آخر يبيّن الرئيس سلام أنّ تأييده ترشيح أمين الجميّل كان العامل المقرّر والحاسم، “فالأميركان كانوا متردّدين في تأييده”. ويقدّم الدليل على ذلك ما حصل مع غسان تويني سفير لبنان في الأمم المتحدة، فيومذاك “اتّصل بي (تويني) وقال إنّ الأميركان أبلغوه أنّه ليس بإمكانهم تأييد أمين الجميّل لأنّ المسلمين في رأيهم لا يقبلون به، ولكنّه أقنعهم بعكس ذلك حين أبرز لهم برقيّة وصلته يومها من بيروت، وفيها أنّ ابني تمّام أبلغ أمين الجميّل في زيارة له أنّني، باسم المسلمين، أؤيّده، وأنّني أعلنت ذلك عقب الاجتماع الموسّع في منزلي”.

يقول سلام إنّه دعم أمين الجميّل وحكومة شفيق الوزّان على الرغم من عدم اقتناعه بأدائهما، “وذلك حرصاً على الشرعيّة التي يريد أنْ يهدمها كثيرون، وتبقى الشرعيّة على علّاتها الأمل الوحيد بإنقاذ لبنان”. ويقدّم جملة ملاحظات على حكم أمين الجميّل خلال سنة ونيّف منها:

– حسب تجاربي، ثبت ما كان يقوله لي والدي من أنّ المسيحيّين ليسوا أهلاً للحكم.

– المارونيّ إنْ لم يكنْ بحاجة إليك شمخ إلى السماء، وإذا احتاج إليك فهو يصغر ويتضاءل إلى أصغر من صغير.

– مرض لبنان منذ سنين عديدة هو حزب الكتائب بصورة عامّة، وبيار الجميّل بصورة خاصّة، فهو الذي يغطّي جميع مساوئ حزبه الفاشيّ، ويُذكي الأحقاد بين المسلمين والمسيحيّين.

– عقدة الخوف ما زالت تتحكّم بالموارنة، وأنا لا أُعفي المسلمين من إذكاء ذلك بتصرّفاتهم.

سلام: استهداف السُنّة والعرب هو خطّة غربية قديمة قرأنا عنها منذ سنوات طويلة، وليس لبنان إلّا أحد ميادينها، وليست إسرائيل ولا سوريا سوى بعض أدواتها

الإرهاب الخمينيّ والعقدة الأمويّة

يذكر سلام ما رواه رئيس الحكومة شفيق الوزّان لرؤساء الحكومات السابقين عمّا جرى معه في مؤتمر القمّة الإسلامي في الرباط (1984)، وكيف أعلن وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدّام أمام الجميع: “في سوريا نحمل عقدة الأمويّة والأمويّين في معاطاتنا مع جيراننا”.

ثمّ يسرد واقعة اختطاف القنصل السعودي في كانون الثاني 1984 في الروشة “على أيدي عناصر مسلّحين اقتادوه في ثلاث سيّارات وتوارَوْا. اتّصلت بالسفير السعودي الجديد أحمد الكحيمي مواسياً وأشرت عليه بضرورة إبلاغ المسؤولين في السعودية الاتّصال بحافظ الأسد، لأنّ الشائع أنّ هذه العملية تشبه عملية اختطاف رئيس الجامعة الأميركية “دودج”، واختطاف الدبلوماسي الأردني، وكلّها كانت بغطاء سوري، ثمّ إنّ سوريا هي التي أفرجت عنهما، أو سعت بذلك على حدّ ادّعاءاتها. والكلّ يعتقد اليوم أنّ حادثة القنصل السعودي هي من مسؤوليّة الإرهابيّين الإيرانيّين بغطاء سوريا. لم يكد يمرّ أربع وعشرون ساعة حتّى وقعت فاجعة اغتيال رئيس الجامعة الأميركية “مالكوم كير” في مكتبه وفي رابعة النهار. والاعتقاد السائد أنّ وراء ذلك الإرهابيّين الإيرانيّين بغطاء سوري”.

بفراسة رجل الدولة المحنّك يحذّر الرئيس سلام مراراً وتكراراً من تأثير الفوضى في لبنان على سوريا وكلّ العرب، إذ “إنّ سوريا لمْ تدرك إلى اليوم أنّ ما توقعه في لبنان من فوضى وسيطرة المخبرين، وتمركز الإرهاب الدولي فيه، وتدفّق النفوذ الإيراني والليبي عليه، إنّما سيعود على كلّ بلد عربي بالضرر الكبير، وعلى سوريا بالذات”.

في موضع آخر، يسرد سلام تفاصيل الاعتداء على السفارة السعودية: في آب 1984 قمت بزيارة للسفارة السعودية.. للتعبير عن استنكاري واستنكار المسلمين لِما وقع على القنصلية السعودية أمس منْ عدوان من قِبل جماعة حزب الله وبعض الشيعة تحت ستار احتجاجهم على عدم منح الحجّاج اللبنانيّين تأشيرة الدخول إلى المملكة. أقول “تحت ستار” لأنّ العدوان كان مهيّأ من العناصر التخريبية من حزب الله و”أمل”، بالإضافة إلى الشيوعيّين الذين يستغلّون كلّ مناسبة لإذكاء النار. العدوان كان شنيعاً وبشعاً أدّى إلى إحراق القنصلية وإنزال العلم السعودي ورفع العلم الإيراني مكانه مع صور الخميني”.

الفتنة السنّيّة الشيعيّة

عقب انتفاضة 6 شباط 1984، والتجاوزات الميليشياويّة بحقّ أهل بيروت، وخاصّة السُنّة، يروي سلام تفاصيل اجتماع سنّيّ موسّع عُقِد في 21 شباط بدار الفتوى “ضمّ رؤساء الوزراء السابقين والوزراء الحاليّين والسابقين والنوّاب الموجودين في بيروت، وهذا كان بإلحاح منّي لإبراز الوجود السنّيّ الذي تأخّر حتّى اليوم. وكنت قبل الاجتماع، بتوقيت مقصود، قد زرت الشيخ محمد مهدي شمس الدين وأدليت من عنده بحديث تلفزيوني وصحافي، مقدّراً له جهده الدائم في الحفاظ على الوحدة الإسلامية بين السُنّة والشيعة، وهذا ما أمضيت شخصيّاً عشرات السنين وأنا أنادي به وأعمل في سبيله، حتّى كنت أشعر، ويشعر معي النوّاب الشيعة، بأنّ لي شعبيّة عند الشيعة تضاهي أيّ واحد منهم، حتى جاءت التطوّرات الأخيرة فجعلت الشرخ واسعاً، وأصبح شعور الشيعة نحوي ما يمكن أنْ أصفه بالعدائي”.

سلام: إنّ اللبناني عندما يأتي تأليف الحكومة ينسى الظروف التي نحن فيها، بلْ ينسى أمّه وأباه، وصاحبته وبنيه، بلْ والوطن الذي يضمّه، ولا يعود واعياً لغير حصوله على المركز الوزاري

يتحسّر سلام على حال المسلمين السُنّة في لبنان وانقسامهم، ويذكر أنّه قرأ في مذكّرات سفارة بريطانيا لعام 1943 “ما ذكّرني بوضع المسلمين اليوم. فقد ورد في تقرير من القنصل البريطاني لحكومته يومذاك، أنّ علّة المسلمين السُنّة في لبنان ليست في منْ أو في ما هو ضدّهم، بل هي في تشرذمهم وعدم التضامن فيما بينهم، وهذا ما نعانيه اليوم في كلّ المجالات”.

يخبرنا كذلك عن الرسالة التي بعثها العاهل السعودي الراحل الملك فهد إلى الرئيس أمين الجميّل مطلع عام 1985 عبر رفيق الحريري، والتي نقل فؤاد السنيورة إليه تفاصيلها، ومنها أنّ “السعودية لا يمكنها أنْ تقبل أنْ تتّفقوا أنتم الموارنة في لبنان مع نبيه برّي والشيعة على ظهر السُنّة”.

كذلك ما دار بينه وبين السفير المصري نهاد العسقلاني الذي زاره “وكان أهمّ ما في حديثه وضع المسلمين السُنّة في لبنان، وفي بيروت خاصّة، والتأسّف على ما هم فيه من ضعف وضياع وتبعثر. أعدت القول عليه بأنّ غيابها (مصر) عن الساحة العربية منذ ما يقرب من عشر سنوات لا شكّ أنّه أضعف العرب جميعاً، لكنّ المسلمين السُنّة في لبنان نالهم أكبر الأثر من هذا الضعف، خصوصاً أنّه أفسح المجال أمام السوريّين ونفوذهم العلويّ لاستقطاب الكثير من المسلمين السُنّة على الصعيد العربي والإسلامي ظاهريّاً، والعمل على تهديم وجودهم سنّيّاً بحميع الأساليب الفتّاكة. ثمّ كانت هذه الموجة الخمينيّة الأخيرة، التي تمثّلت بالتحالف الإيراني السوري وجعلت هذه النعرة الشيعية تفور وتطغى على السُنّة، وتُفشِل عملي منذ ثلاثين سنة وأكثر في توثيق الرباط الإسلامي السنّيّ الشيعي، وعندي وثائق مدوّنة تؤكّد هذه المساعي أعطيته نسخاً منها”.

واحدة من تلك الوثائق التي يقصدها سلام كانت الوثيقة “التاريخية” التي وقّعها المفتي محمد علايا والشيخ محمد تقي صادق مندوب المرجعية الشيعية، والتي نصّت على وجوب إنشاء مجلس إسلامي أعلى يضمّ السُنّة والشيعة معاً، ووقّع عليها الرئيس صائب سلام “للتأكيد والتأييد”.

يعتبر سلام أنّ “استهداف السُنّة والعرب هو خطّة غربية قديمة قرأنا عنها منذ سنوات طويلة، وليس لبنان إلّا أحد ميادينها، وليست إسرائيل ولا سوريا سوى بعض أدواتها. هذه الخطّة أخذت تُنفّذ خطوة خطوة، إذْ نرى قلاع السُنّة في لبنان تُهدَم قلعة قلعة، وهي كلّها قلاع إسلامية سنّيّة فيها مرتكز الإسلام والعروبة”.

فتنة الحكومة وغدر كرامي

عن تأليف الحكومات في لبنان، ولا سيّما زمن الحرب، يقول سلام: “إنّ اللبناني عندما يأتي تأليف الحكومة ينسى الظروف التي نحن فيها، بلْ ينسى أمّه وأباه، وصاحبته وبنيه، بلْ والوطن الذي يضمّه، ولا يعود واعياً لغير حصوله على المركز الوزاري”. وكان سلام قد أعلن ترشيحه رشيد كرامي لرئاسة حكومة جديدة تخلف حكومة شفيق الوزّان، وذلك في استشارات أجراها الرئيس الجميّل في شباط 1984. وفي أواخر نيسان كلّف الجميّل رسميّاً رشيد كرامي تشكيل حكومة جديدة.

يقول سلام: “بعد عدّة أيام من المشاورات، وبعد عشر ساعات من الخلوة بين الرئيسين الجميّل وكرامي، أعلن كرامي وزارته من عشرة وزراء.. وقد شعرت بأنّ كرامي أراد الطعن بي، إذ مثّل جميع فرقاء هيئة الحوار في جنيف ولوزان بصورة مباشرة أو بالواسطة بينما استبعد أيّاً كان من جهتي، وأتى بـ(سليم) الحص الذي يعدّ مع مالك سلام ورشيد الصلح من فريق آخر غير فريقنا في بيروت. وفي اليوم التالي أصدرت بياناً أوضحت فيه رأيي بكلّ صراحة.. واكتفيت بإنهاء بياني كما يلي: “فلننتظر ونرَ، فالوطن ومصلحته العليا أكبر من الصغائر التي لا يتوقّف بعضهم عن ممارستها، حتّى في أشدّ الظروف حراجة بينما البلاد تتمزّق”.

قصف “بيت المصيطبة”

“الثلاثاء 22 كانون الثاني 1985، وفي تمام العاشرة والنصف مساء، وبينما كنت مع تميمة وتمّام في غرفة الجلوس، هزّ المنزلَ انفجار شديد وشعرنا كأنّ جزءاً من البيت قد انهار، خصوصاً أنّ صوت تكسّر زجاج الواجهات والشبابيك قد أضاف إلى صوت الدويّ أصواتاً أخرى.

“وعندما تبيّنّا الأمر، وجدنا أنّ سيارة وقفت شرقي الدار على بعد خمسين متراً (جسر سليم سلام)، وأطلق منها أحدهم صاروخ “آر بي جي”، وعاونه آخر بإطلاق رشّة رصاص من كلاشنيكوف، فأصابا جدار المنزل الشرقيّ عند بيت السلّم، واخترقت الجدار الحجريّ فأوقعت أضراراً ماديّة”.

إقرأ أيضاً: مذكرات صائب سلام (6): حلف شيعي ماروني ضدّ السنّة منذ 1980.. بمال الخميني

تكرّر الأمر بعد ستّة أسابيع بنفس الطريقة تماماً، وذلك يوم الثلاثاء 12 آذار، في الساعة العاشرة والنصف مساءً أيضاً. ويقول سلام إنّ “القذيفة الثانية كسابقتها لحسن الحظ، اصطدمت بجسر حديدي خفّف من زخمها، وإلّا لأوقعت أضراراً جسيمة في أرجاء الدار”.

وفي متن الجزء الثالث، يذكر سلام بفخر واعتزاز فريقاً من الشباب أصبح مقرّباً منه ويتداول معه في الشؤون السياسية، وبعضهم رافقه إلى مؤتمرَيْ جنيف ولوزان، وهم: تمّام سلام، جميل كبّي، محمد المشنوق، هشام الشعّار، سامي الشعّار، سليم دياب، محمد أمين الداعوق، عثمان عرقجي، سامي النحّاس، فاروق جبر، وأحياناً نوّاف سلام.

إقرأ أيضاً

الإصلاحات الدستوريّة: الرئاسة 4 سنوات والرئيس المكلّف يعرض حكومته على البرلمان مباشرة

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من…

مذكرات صائب سلام (6): حلف شيعي ماروني ضدّ السنّة منذ 1980.. بمال الخميني

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (5): دكاكين السلاح المسلم والمسيحي والفلسطيني

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (4): عن استخفاف “الموارنة” برئاسة الحكومة

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…