بغداد اختفت.. فلا تبحث عن مجانينها

كان نهرها هو الأثر الوحيد الذي لا يخطئ طريقه على الخارطة. صنمها الملهم الذي لا يصلح للعبادة، فما من معبد يرتاده المصلّون من أجل زائر هو من سكّان البيت المكتفي بحسن الضيافة. دجلة الخير التي لم تردّ التحيّة. “حيّيت سفحك عن بعد فحيّيني”.

كانت بغداد مدينة عيش تتمشّى بين الظلال تحاشياً لشمسها الحارقة. ليس لشهر آب أبواب كثيرة. باب واحد يفضي إلى الجحيم من غير وعد بالغفران. الوثنيّون أكثر سقاة النبيذ شقاوة. لم يكن العنب ناضجاً ليُقطف وكانت الحقول مسيّجة بالخوف. ليس للصبيان سوى أن يعلّقوا الطائرات الورقية في أعالي الشجر ليروا السماء وقد اخترقتها أحلامهم وصولاً إلى المياه التي تقع تحت العرش. النوارس التي تلفّ الجسور السبعة بوشاح أبيض هي جزء من تلك الصفقة الخيالية. ومنها لكي تكون بغداديّاً عليك أن تتولّه غراماً بالباميا وتشرب العرق المستكي بروح رياضية. ومنها إن شئت أن لا يراك أحد فما عليك سوى الذهاب إلى سوق الغزل لتدخل في حوار عبثيّ حول مصير الطيور المهدّدة بالانقراض. ليس هناك ما يجبرك على الانتقال من سوق الهرج إلى سوق الصفافير سوى ولعك بالتيه ولكي تتأكّد من سلامة حواسك. 

لم تكن بغداد يوماً ما من المدن المفتوحة. حين غزاها الريفيون سيّجوها مثل زنّار صدأ إلى أن بدأت حشودهم تمتدّ إليها لتقف تحت جداريّة فائق حسن. أشبه بجيب سرّيّ اُنتُزع من الخارطة. ولكنّ شارع النضال بقصره الأبيض لن يكون أبداً امتداداً لشارع الشيخ عمر. بقيت رائحة باجة الحاتي بعيدة عن أنوف زوّار كنيسة الأرمن البيضاء الذين لن يزعجهم برت لانكستر وغاري كوبر وهما يتبادلان رمي الرصاص في سينما النصر الصيفيّ. ظلّ صوت الرصاص واختفت السينما.

لم تكن بغداد يوماً ما من المدن المفتوحة. حين غزاها الريفيون سيّجوها مثل زنّار صدأ إلى أن بدأت حشودهم تمتدّ إليها لتقف تحت جداريّة فائق حسن

حكام “تبغددوا”

اللطخة التي لوّثت ثوب زفافها ولم يتمكّن أحد من إزالتها بدأت من حقيقة محرجة. حكّامها لم يكونوا بغداديّين. من الملك فيصل الأول إلى صدّام حسين. تبغددوا، لكن من يتبغدد لن يصبح بغداديّاً بالضرورة. كانت علاقة مريرة طغى عليها سوء الفهم الذي كان أخيراً سبباً في الهلاك. هلاك الصورة وهلاك المعنى. بغداد اليوم ليست هي. لقد هلكت المدينة مثل كلّ كائن حيّ. حين فقدت لغتها مع الاجتياح الريفي لم يجد ناظم الغزالي أحداً يقاسمه الاستفهام: “سمراء من قوم عيسى مَن أباح لها/ قتل امرئ مسلم قاسى بها ولها”، فالسمراوات اللواتي كنّ يمشين بغنج بلقيس على زجاج أزقّة عقد النصارى والبتاوين وبارك السعدون صرن يتلفّتن هلعاً من غير أن يفهمن إن كانت تلك النظرة طائراً مفتوناً أم رصاصة طائشة. لم يكن حدثاً خياليّاً أن ترى ساقين من مرمر في الصدريّة. أما كان علينا أن نمرّ بين ساقين بدلاً من أن نشقّ الطريق إلى نصب الشهداء، القبّة المقسومة نصفين كما لو أنّ برقاً مرّ من خلالها؟

إلى أين يمكن أن يهرب المرء بمدينة كانت يوماً تنام على السطح لخفّة هوائها؟ لن يعترف لبائعة السمك في الشواكة أنّ بضاعتها المقبلة من النهر لتوّها مسمومة، كما أنّ العابر من جانب الرصافة إلى جانب الكرخ إذا ما وجد زقاقاً مسدوداً فإنّه سيشعر بتأنيب ضمير. ذلك لأنّ الآنسات الرقيقات حين ينمن يتركن الباب مفتوحاً. ستكون الزيارة مناسبة للخجل. في ذلك الليل الأسطوري لا يملك العسس عدسات تصوير. إلى صلاة الفجر يمكننا أن ندور بين الأزقّة ونحن نردّد أشعار أبي نؤاس. كانت بغداد قالب حلوى يذوب في الفم. 

في حانة المرايا قرب كهرمانة كان الشعراء يرغبون في دفن الهزيمة. هزيمتهم وهزيمة أحفادهم الذين سيولدون وفي أفواههم ملاعق من تراب. سيقول أحدهم: “الخبز ليس فكرة”، فيجيبه الثاني: “الفكرة دائرية مثل بغداد”، أمّا الثالث فسيظلّ صامتاً لأنّه يفكّر في البعد غير المرئي لخرافة أن يكون المرء حيّاً في مدينة تموت.

ما كان علينا أن نسعد. ولكنّنا كنّا نضحك من شدّة البلاهة. لقد تمكّنت منّا البلاهة. بلهاء وفلاسفة أميّين بل وهراطقة كنّا. يمكننا أن نقوم الآن بنزهة خيالية في شوارع مدينة اختفت. بمكتبة النهضة يبدأ شارع السعدون. على اليمين تقع ثانوية العقيدة ومطعم نزار ومقهى إبراهيم الذي هو الرمز الأعظم في سيرة الشعر العراقي الحديث في ستّينيّات القرن الماضي. إنّه مقهى المعقّدين. ليت الشعراء بقوا معقّدين. 

هل ظُلمت المدينة لأنّ خلاصتها انتهت إلى مقهى؟ 

لقد كانت للمقاهي حروبها الداخلية. حين ودّعتها آخر مرّة لم يكن هناك أثر لسركون بولص ولا فاضل العزاوي ولا مؤيد الراوي ولا جان دمو الذي مات في أستراليا متأثّراً بخوائه. هناك نوع عميق من السخرية. لم تعد المدينة موجودة، فهل يُعقل أن تبحث عن مجانينها؟ 

*كاتب عراقي

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…