تحييد السلاح.. تشاطر خارج قاموس الحزب

يدعو سليمان فرنجية، المرشّح المرجّح لرئاسة الجمهورية في لبنان، كما دعا سياسيون قبله، إلى تحييد سلاح حزب الله عن السجال الداخلي. والحجّة الدائمة في ذلك، كما حجّة غيره، أنّ للسلاح مفاعيل إقليمية ودولية لا قدرة للبنان على التأثير عليها. 

وإذا ما كانت تلك “التخريجة” مثالية لاستقالة اللبنانيين من رفض السلاح في إدارة بلدهم، فإنّ حزب الله أنِسَ لأمر اقتناع اللبنانيين أخيراً بما أعلنه زعيم الحزب قبل سنوات من أنّ “موازنة حزب الله ومعاشاتو ومصاريفو وأكلو وشربو وسلاحو وصواريخو من الجمهورية الإسلامية في إيران”.

الخارج لم يضع يوماً سلاح حزب الله على رأس أولويّاته، ولطالما استمرّ في التعامل الرسمي مع حكومات لبنان حيث للحزب الحصص والنفوذ

وعلى الرغم من بلادةِ بعض ساسة البلد في اعتبار سلاح الحزب شأناً خارجياً، فإنّ الحزب، على العكس من ذلك، توّاقٌ إلى تأكيد لبنانيّة هذا السلاح يتوسّل إدراجه داخل البيانات الحكومية فارضاً شرعيّته القانونية الكاملة على لبنان ومؤسّساته. وإذا ما تشاطر الساسة في الإفتاء بـ”ربط النزاع” مع الحزب أو “تحييد” سلاحه عن العملية السياسية، فإنّه لا أحد يسأل بالمقابل عن بداهة إصرار الحزب على عدم “تحييد” هذا السلاح عن إدارة البلد ويوميّات الحكم فيه.

يعرف “التحييديّون” أنّ لبنان عاش منذ إرهاصات ما قبل اغتيال رفيق الحريري على إيقاع هذا السلاح غير المحايد الذي بات، بعدما كان “مقاومة”، مقاوِماً للطبائع السياسية في البلد مملياً عليها أجندته. وسواء في حملة الاغتيالات الممنهجة أو في افتعال الخضّات الأمنية الكبرى أو في جرّ البلد في مناسبات متعدّدة إلى حروب أهليّة صغيرة، فإنّ هذا السلاح، الذي يُراد بعبقريّة ودهاء التعامي عنه والقفز على أورامه، يتحمّل القسط الكبير من مسؤوليّة انهيار البلد وحالة العزلة التي يعاني منها.

السلاح باعتباره قدراً

المشكلة الكبرى أنّ لبنان المنهك شعبياً ونُخَباً سياسية، كما حكوماته المتعاقبة، يتعامل مع سلاح الحزب بصفته “قدراً”، وأنّه بات من علامات البلد النهائية تماماً كما أعمدة بعلبك وقلاع الرومان. ولئن لم يعرف البلد منذ استقلاله كثيراً من الثوابت، وعرف موجات متلاحقة من التحوّلات، فإنّ عتاة التحييديين يبشّرون بالدويلة بما هي ثابتة فيما يرون الدولة متحوِّلاً. وحين يُلفّق رئيس الحكومة ووزير الخارجية بياناً يتحفّظان فيه على تبرّع الحزب بإرسال مسيَّراته فوق حقل كاريش الإسرائيلي، فإنّ الطرفين يلوذان بالصمت بعد ذلك ويلجمان أيّ ردّ على استهجان الحزب للموقف الرسمي، بما يترك للسلاح كلمته الأخيرة وهو الذي كانت له الأولى دوماً.

قد يجوز المجادلة في مسألة قيام اللبنانيين بتحييد سلاح الحزب إذا ما حيّد حزب الله السلاح عنهم أو حتّى زعم ذلك. لكنّ المفارقة تكمن في أنّ هذا السلاح بالذات هو الذي يتيح ويردع تعيين رئيس للحكومة، وهو الذي يحدّد شكل الحكومة وتوجّهاتها، وهو الذي انتخب ميشال عون رئيساً ومن المرجّح أن ينتخب فرنجية رئيساً. فكيف يطالب “أصحاب السعادة والمعالي” بتجاهل سلاح هو وحده لا شريك له صانع المناصب والرؤساء وما بينهما.

والحال أنّ الخارج لم يضع يوماً سلاح حزب الله على رأس أولويّاته، ولطالما استمرّ في التعامل الرسمي مع حكومات لبنان حيث للحزب الحصص والنفوذ. ولئن يقارب الخارج هذا الحزب بشكل موضعيّ متفاوت المستويات من زاوية ما يمثّله من أخطار لإسرائيل أو من زاوية تورّطه في شبكات الإرهاب والتهريب، فإنّ تعايش لبنان الرسمي مع سلاح الحزب، وتبنّيه فكرة ضرورته للدفاع عن لبنان، وفق رواية رئيس الجمهورية، برّرا عدم ذهاب هذا الخارج بعيداً في الانخراط في ورشة معادية لسلاح لا يلقى معارضة داخلية وازنة وفاعلة ودائمة.

حماية السلاح… بوابة بعبدا

يتّسق المرشّح فرنجية مع نفسه ومع “خطّه السياسي” الذي لطالما افتحر وجاهر به. سبق له أن قال إنّ حزب الله (أي السلاح) هو مَن أسقط فرصته حين تمّ تبنّي ترشّحه من قبل الرئيس سعد الحريري. بمعنى آخر فإنّ صيانة السلاح وحمايته استدعتا ترئيس حليف الحزب وشريكه في “تفاهم مار مخايل” الشهير. وإذا ما قرّر حزب الله “تأجيل” رئاسة فرنجية، فذلك يعني في مقاربات المرشّح أنّ الحزب (وسلاحه) هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في قرار دخوله إلى قصر بعبدا.

هنا تصبح المحافظة على السلاح ضرورة وحاجة للعبور إلى بعبدا، ومن الضروري تحييده عن السجال اللبناني. إلّا أنّ الحزب نفسه غير معنيّ بفكرة “التحييد” هذه ولا يعتبرها جميلاً. والأمر بعُرفه لا يقرّره لبنان وليس خاضعاً لمزاج “التحييديين أو غيرهم. فالسلاح أداة وحيدة ناجعة لممارسة السياسة والهيمنة على المشهد البرلماني في بيئته والسطو على توازنات البلد وقواعد حكمه. والسلاح بهذا المعنى لن يكون محيّداً ويخضع لحسابات تسوقه إلى سوريا والخليج واليمن، أو تسوقه لقول قولته من رفيق الحريري إلى لقمان سليم.

الدعوة إلى “تحييد” سلاح حزب الله هي دعوة سياسية لا تعني أنّ أصحابها سينخرطون عسكرياً في الدفاع عن هذا السلاح. لكن بالمقابل ضرورات الدعوة إلى عدم تحييد هذا السلاح عن النقاش العامّ، لا بل جعله أساس أيّ نقاش، هي أيضاً دعوة سياسية لا تعني أنّ لأصحابها مشاريع وخططاً للانخراط عسكرياً ضدّ هذا السلاح.

إقرأ أيضاً: الانتخابات الرئاسيّة: الحزب منفتح على “التسوية”

وإذا ما كان التحييد هو تحصيل حاصل بالنسبة إلى الحزب ولا عبقرية في اكتشافه، فإنّ غياب الاعتراض على السلاح والتطوّع للالتفاف على واقعه، ولا سيّما من قبل التغييريين والمستقلّين والمعارضين القدامى، وإخراج قضيّته من التداول اللبناني هي الحال التي يطرب لها حزب الله ويطمئنّ فيها لاستقراره ويهتمّ بها أكثر من اهتمامه بأصحاب منّة الحياد وفتاويهم.

غريبٌ أمرُ مَن يتطوّع ومَن تطوّع سابقاً لتحييد سلاح حزب الله، فماذا يبقى لحزب الله إذا تمّ تحييد سلاحه؟

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…