لا تضيّعوا الوقت.. ابحثوا عن رئيس للحكومة

إن أردنا كتابة تاريخ لبنان السياسي منذ الاستقلال من دون مواربة ومداراة، وبعيداً عن الرياء وقلب الحقائق، فإنّ هذه الكتابة لا يمكن أن تستند إلى أسماء رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا من بشارة الخوري وصولاً إلى ميشال عون. فكتابة التاريخ فعلُ رصدٍ للإنجازات وعمليّات الإنقاذ، وليست مطلقاً كتابة يائسة عن السقطات والأزمات وصناعة الحروب والنزاعات.

تنشغل الساحة السياسية اللبنانية في هذه الأيام باسم المرشّح لرئاسة الجمهورية الذي تتقدّم حظوظه لخلافة الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا، حتى يخال البعض أنّ مشاكل لبنان وأزماته ستُحلّ بسحر ساحر فور خروج ميشال عون من القصر وانتخاب خلف له. تخالف الوقائع التاريخية هذا المنطق، قائلةً إنّ الأزمة ليست في شخص رئيس الجمهورية أو الاسم الماروني الذي يحظى بهذا المنصب. الإشكالية الأساس لخروج لبنان من أزماته منذ نشوئه كدولة مستقلّة هي في اسم مَن يجلس على كرسي رئاسة الحكومة في السراي الكبير.

الجميع مُطالَب بتصحيح البوصلة، والعمل منذ الآن على البحث عن اسم يرأس الحكومة التي ستلي استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية

حاول الكثير من رؤساء الجمهورية المتعاقبين اختزال منصب رئاسة الحكومة، تارة بالاستناد إلى الوجوه المغمورة، وتارة أخرى بالاعتداء على صلاحيّات الرئاسة الثالثة. هذا ما فعله البعض من رؤساء الجمهورية قبل الطائف وبعده. وفي كلّ محاولة كان لبنان وشعبه يدفعان الثمن بأمنه واقتصاده واستقراره. هذا ما حصل مع الرئيس بشارة الخوري عندما قرّر إقصاء رياض الصلح، وهو نفسه ما حصل مع الرئيس فؤاد شهاب عندما سعى إلى إنهاء زعامة صائب سلام، وتكرّر السيناريو نفسه مع الرئيس إميل لحود عندما حاول إخراج رفيق الحريري من المعادلة، مع استثناء ما حصل لاحقاً في عهد الرئيس ميشال عون، الذي سعى إلى إخراج السُنّة برمّتهم من المعادلة السياسية، فأخرج الوطن من الجنّة إلى جهنّم وبئس المصير.

عاش لبنان الحديث ثلاث محطّات مصيرية في تاريخه، مكّنت النجاحات فيها اللبنانيين من التمتّع في مراحل متقطّعة بالعيش الرغيد وبالشعور بأنّهم ينتمون إلى وطن يحفظ معاشهم، ويرسم مستقبلهم، ويسيِّج طموح أبنائهم.

1- لبنان الوطن: اختتم الرئيس رياض الصلح بيان الثقة لحكومته الأولى بعد الاستقلال بالقول: “إنّ مرحلة الكفاح في سبيل إنشاء الدولة قد انتهت، وبدأ دور الكفاح في سبيل إنشاء الوطن”. آمن رياض الصلح أنّ لبنان عربيّ الهويّة، وسطيّ المعتقد، لا مكان للتطرّف فيه، ولا مساحة متاحة للأفكار المستورَدة. إيمان اقتنع به رئيس الجمهورية في حينه بشارة الخوري، فتمّت صناعة لبنان الوطن. واقتناع الخوري توثِّقه حادثة جرت بعد محاولة الحزب السوري القومي الاجتماعي الانقلاب على السلطة، وأدّت في النهاية إلى إعدام زعيم الحزب أنطون سعادة.

يروي القيادي في الحزب السوري القومي إدمون طوبيا في أحد كتبه: “أنهى فخامة الرئيس (بشارة الخوري) مكالمة هاتفية، وقال: “يا إدمون، إنّ زعيمكم سعادة قرّر القيام بانقلاب وتسلُّم الحكم. انهض حالاً واطلبه على الهاتف واستعلم منه عن صحّة هذا الخبر. وقل له ألّا يفعل شيئاً من ذلك”. عندئذ طلبنا حضرة الزعيم ورجوته أن يطلعني على حقيقة هذا النبأ بالضبط، الأمر الذي نفاه الزعيم جملة وتفصيلاً”. وبعد مراجعة ثانية للشيخ خليل الخوري وشرح حقيقة الموقف له ليبلغه إلى والده كان الجواب النهائي للخوري: “إنّ هذه القضية محصورة بمجلس الأمن، ومجلس الأمن يرأسه رياض الصلح، وعليكم مراجعة رياض”.

تنشغل الساحة السياسية اللبنانية في هذه الأيام باسم المرشّح لرئاسة الجمهورية الذي تتقدّم حظوظه لخلافة الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا

2 وطن الحرّيّات: النجاح الذي حقّقه عهد الرئيس فؤاد شهاب لا يمكن إنكاره، إلا أنّ هذا النجاح باتت فاتورته باهظة على لبنان واللبنانيين، كوطن وشعب يمثّلون رسالة الحرّية في هذه المنطقة. وضعت سطوة “المكتب الثاني” في عهد فؤاد شهاب، ثمّ في عهد شارل حلو تحديداً، لبنان تحت تهديد مصيري لجهة هويّته الديمقراطية وإمكانية تحوّله إلى نظام “بوليسي”. هنا كان دور الرئيس صائب سلام في اقتلاع الاستخبارات من الحياة السياسية وقطع يد العسكر عن الحياة الديمقراطية. الحادثة الشهيرة ما زالت تزيّن كتب التاريخ وأرشيف المؤسّسات، حين داهم الرئيس سلام غرفة التنصّت في وزارة الهاتف التي كان يستخدمها ضبّاط “المكتب الثاني” وعطّلها. وعلى مدى سنوات ثلاث راحت تنهال العقوبات على أولئك الضبّاط، إبعاداً إلى ملاك وزارة الخارجيّة، وتعييناً لهم ملحقين عسكريّين في الخارج، وتسريحاً من الجيش، إضافة إلى ما حلّ بآخر رؤساء “المكتب الثاني”، غابي لحّود، الذي اعتُقل وأُودع ثكنة مرجعيون ستّين يوماً.

3- إعادة بناء الوطن: بعد سنوات الحرب الأهلية التي أتت على الحجر والبشر، تسلّل اليأس إلى نفوس اللبنانيين بكلّ طوائفهم ومذاهبهم، وأصبح المهاجرون خارج الحدود يفوقون عدد المقيمين داخلها. دارت جولات من الدم والدمار، كأنّها مسلسل لا تنتهي حلقاته بين بيروتين شرقية وغربية، ثمّ ما بين قائد الجيش في حينه ميشال عون والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، فكان الخلاص عبر رجل اسمه رفيق الحريري الذي رعى اتفاق الطائف عام 1992 رافعاً من بعده شعار الإنماء والإعمار، مهتمّاً بالحجر والبشر، وهدفه استرجاع دور لبنان الكبير.

اعتمد الرجل لتنفيذ شعاره على نظام الخدمات والسياحة وتطوير الأداء، لتمكين لبنان من اللحاق بركب التطوّر الذي تجاوزه خلال سنوات المحنة الطويلة.

من لا يدرك تاريخه فلن يجيد بناء مستقبله. إنّ الأزمة الوجودية التي يعيشها لبنان اليوم من العبث البحث عن مخرج إنقاذي منها من خلال الانشغال والصراع حول هوية رئيس الجمهورية العتيد. إنّ أيّ اسم لرئيس قد يستطيع أن يشكّل إضافة مسيئة إلى ما نحن فيه إن جاء محمّلاً بالأوهام والأحقاد والكيديّة. وإنّ أيّ اسم وأيّ رئيس قادرٌ على أن يكون عاملاً إيجابياً مؤثّراً إن أدرك وقائع ما ذُكر سابقاً من التاريخ.

إقرأ أيضاً: لبنان والإصرار على الانتحار!

الجميع مُطالَب بتصحيح البوصلة، والعمل منذ الآن على البحث عن اسم يرأس الحكومة التي ستلي استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية، يشبه رياض الصلح أو صائب سلام وصولاً إلى الرفيق، ففي هذا الاسم وعبره يتحدّد المصير. لا تتلهّوا بالأسماء التي لا تملك ظلّاً لأجسادها، ولا ملامح في وجوهها، فأسماء كهذه لا تمتلك القدرة على التدبير. نصيحة لوجه الله أنصتوا إليها كي لا نضيّع الوقت وحتّى ننجو جميعاً من الشرّير.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…