ماكرون “المُقيّد”: يتحايل على الدستور؟

تبدأ في فرنسا هذا الأسبوع الفترة الساخنة والمعركة الحاسمة للاتفاق على تقاسم المناصب بين مختلف الفرقاء والقوى الممثَّلين في الجمعيّة الوطنية العامّة والرابحين في الانتخابات الأخيرة.

يتألّف مكتب الغرفة الدنيا التشريعية من مجموعة وازنة من أصحاب المهمّات المؤثّرة جدّاً الذين يبلغ عددهم 21، وهم جميعهم تحت المجهر. من بين هذه المناصب 6 لمركز نيابة الرئيس، و12 كاتباً، وثلاثة مسمّيات من نيابة الرئيس تتكلّف الشؤون الإدارية حصراً للمجلس.

يعود اقتسام هذه المناصب في فرنسا لمجموعة من الحسابات المعقّدة والتفصيلية التي يُحتكم من خلالها إلى التوازنات السياسية التي تحاكي حجم القوى السياسية التي تكوّنت بعد الانتخابات بمتناقضاتها الدقيقة، وإلى الأعراف الثابتة. ومن المناصب المتنافَس عليها بشدّة منصب الرئيس في الجمعية الوطنية. وهو منصب مهمّ جدّاً في النظام السياسي الفرنسي، الرابع في الأهمية شخصية في إدارة الحكم. وقد أصبح شاغراً نتيجة خسارة الرئيس الأسبق أمام مرشّحة حزب الاتحاد الشعبي. ولدينا أيضاً رئاسة لجنة المالية العامة التي تختصّ بدور المراقبة المالية الشاملة للدولة والميزانية العمومية عن طريق لجان تحقيق متخصّصة صلاحياتها مراقبة كيفية استعمال المال العام، ولديها من النفوذ ما من شأنه إضعاف نفوذ الحكومة ومضايقتها في سبل الإنفاق العامّ.

انتقلت دفّة الحكم في فرنسا الجمهورية الخامسة إلى البرلمان، وأصبح هو المقرّر على الرغم من تشرذمه. إذ أنتجت الانتخابات توليفة برلمانية مشتّتة، لكنّها تملك في الحكم الدفّة والكفّة

ما هي خيارات ماكرون؟

يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون بشتّى الطرق إلى التعاون، فيما تجول سيناريوهات عديدة وكثيرة في باله وتحلّق فوق سماء باريس، وأبرزها:

1- الاتفاق التشريعي مع الجمهوريين غير الموحّدين الذين حلّوا في المركز الرابع بـ61 مقعداً، في محاولة منه للتحالف البرلماني معهم لتمرير القوانين، وخاصة إصلاح نظام التقاعد، وهذا الأمر ممكن على الرغم من تدلّلهم وتصريحهم بأنّهم لا يهوون سوى المعارضة، وميلهم إلى توجيه ضربة قاسية انتقامية لسقف التحالفات السياسية وتكسيرها.

2- الاتفاقات المصلحيّة المفتوحة مع الأغلبيات المتحرّكة: وهو السيناريو العملي الذي يخصّ أسراب اليسار والأكثر وسطاً، الراديكاليّين منهم (ميلونشون واتحاده الذي حلّ ثانياً بـ149 مقعداً)، وغير الراديكاليين منهم مثل الحزب الاشتراكي الذي كانت البيضة التي فقس منها ماكرون. ويخصّ هذا السيناريو أيضاً التعاون مع مارين لوبان والتجمّع الوطني الذي حلّ ثالثاً (89) لتمرير بعض القوانين في مجال الهجرة والأمن، ومع حزب الخضر من أجل التعاون في بعض القضايا البيئية والطاقة البديلة. وقد يعتمد على اليساريين بشكل متفرّق، ويحاول ضربهم من خلال تمرير بعض قوانين المتغيّرات البيئية ومتحوّلاتها، فيكسر الائتلاف اليساري عن طريق استمالة المدافعين الشغوفين عن البيئة المستظلّين تحت المظلّة اليسارية. لكنّ هذا السيناريو المصلحيّ، أي “النموذج الاتّفاقيّ” على كلّ ملف، صعب جدّاً، وخطر لعدم مرونة فريق ماكرون البراغماتي الوسطي الذي لا يحبّذ التسويات، فهو سلاح ذو حدّين وانقلابي بالعمق حيث بإمكان هذه الأكثرية المتحرّكة، والمعارضة في حقيقتها، التجمّع كمعارضة وطرح الثقة.

3- الاستفتاء الشعبي الذي تنصّ عليه المادّة 11 من الدستور الفرنسي، ويمكن تنظيمه بشأن كلّ المشكلات والمسائل المطروحة والعالقة (سياسياً، اجتماعياً، واقتصادياً وبيئياً)، ويتيح لماكرون بأن يمرّر القوانين بفضل نتيجته متجاهلاً البرلمان. إلا أنّه مصيدة بحدّ ذاته، والناخب الفرنسي لا يحبّ المواربة وتهميش الجمعية الوطنية، ولا يحبّذ الالتفاف على النائب.

4- حلّ الجمعية الوطنية العامّة (البرلمان): وهو سلوك خطير جدّاً وأبغض الحلول، وهو قرار يخصّ الرئيس ولا يمكن أن يحلّها إلا مرّة واحدة في السنة الواحدة، وبإمكانه دستورياً الإقدام على هذه الخطوة، لكنّها خطيرة سياسياً، إذ قد يكون لها ردّ فعل عكسي أو قد تشكّل انتحاراً سياسياً، لكن يبقى الأمل الذي تتمسّك به قوى اليسار، والذي قد يحمل مفاجآت كالتي أوصلت فيما مضى ليونيل جوسبان إلى رئاسة الحكومة في عام 1997، بعدما أقدم شيراك على هذا الفعل.

5- الاستقالة والدعوة إلى انتخابات رئاسية: هذا السيناريو بعيد نسبياً، لكنّه يبقى احتمالاً حاضراً. الاستقالة مخاطرة كبيرة وتتسبّب بمخاض عسير، وتخلق جدلية سياسية وإشكالية دستورية فاقعة. أمّا الجدلية السياسية فتتمثّل في مواجهة العهد الماكروني انفلاشاً في التطرّف اليساري واليميني، ومن الممكن أن تزيد النقمة عليه وتقصيه مع “حركة معاً”. وأمّا الإشكالية الدستورية فتتعلّق بحظر الدستور الفرنسي الترشّح بعد ولايتين رئاسيّتين متتاليتين، بحيث تدخلنا هذه الإشكالية في الفلسفات القانونية حول الولاية التامّة وغير التامّة والناجزة وغير الناجزة، وتطرح أحقّية ماكرون في الترشّح من جديد.

 

“نافذة” دستورية… تضرب الديمقراطية

إلى هذا هناك الآليّة البرلمانية المسمّاة 49/3، التي تتعلّق بالفقرة 3 من المادة 49 من الدستور الفرنسي، وتتيح للحكومة إقرار القوانين من دون مناقشتها في البرلمان ومن غير الحاجة إلى تصويت المجلس التشريعي عليها. وقد خسر اليسار الحاكم في عام 1988 الأكثرية المطلقة في الحكم من خلال هذه الآلية، التي تسيء في عمقها إلى جوهر الديمقراطية على الرغم من كونها دستورية وشرعية حينذاك، غير أنّ معيار المشروعية منخفض فيها، لذلك تمّ تعديلها ولم يعد باستطاعة الحكومة إلا أن تستعملها لمرّة واحدة خلال الدورة البرلمانية الواحدة، وهذا يعني عدم إمكانية تفعيل الحكومة لهذه الآلية لتمرير القوانين بالقوّة.

لقد انتقلت دفّة الحكم في فرنسا الجمهورية الخامسة إلى البرلمان، وأصبح هو المقرّر على الرغم من تشرذمه. إذ أنتجت الانتخابات توليفة برلمانية مشتّتة، لكنّها تملك في الحكم الدفّة والكفّة، وهنالك غالبية رئاسية عاديّة لا تقوى على المتابعة أبداً بمفردها ويلزمها معين، وحَلَّ تكتّل الاتحاد الشعبي ثانياً، لكنّه ليس معارضة متماسكة، وإنّما مجموعة معارضات هي أقرب إلى أن تكون تحالف أقلّيّات سياسية ترفض الانصهار في بوتقة واحدة لاختلافاتها الجوهرية، وهو أمر يصبّ في مصلحة ماكرون نوعاً ما.

يشكّل “التجمّع الوطني” مفاجأة الانتخابات الوحيدة بظفره بـ89 نائباً، وهو ما يرشّحه وفقاً للعرف لتولّي رئاسة اللجنة المالية، التي تريدها بشدّة فرنسا والتحالف الشعبي، الذي يركّز على التحالفات مع اليمين واليسار للحصول عليها. بالتوازي يرفض الجمهوريون نواباً من أقصى اليسار لتولّي رئاسة هذه اللجنة، وهو الأمر عينه بالنسبة إلى أقصى اليمين، وبالتالي قد نكون أيضاً أمام تحالفات متناقضة يمينية ويسارية للحصول عليها، وقد نكون أمام تحالفات مع اليمين المتطرّف ضدّ اليسار، أو حتى اليسار الوسطي ضدّ الراديكالي منه.

إقرأ أيضاً: ماكرون يبحث عن “نجيب الفرنسي”…

في هذا السياق يسعى “ائتلاف معاً” بمعزل عن الصعوبات إلى إبرام اتفاقيات مع بعض المعتدلين في البرلمان لاستمالتهم وتأليف تحالف منتج أو القيام بتسويات تشريعية، وبالتعاون المفيد مع كلّ القوى وإقرار قوانين من خلال تحالفات “على القطعة”، باستمالة الكتل ظرفيّاً وفقاً للبرنامج والقوانين، ويحاول تجاوز عتبة الرقم الذهبي 289 الضروري للظفر بالأغلبية المطلقة وتأمين الأكثرية التشريعية للعهد لضمان تنفيذ برنامجه وقوانينه، ولو بالحدّ الأدنى.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…