عبد الرحيم أبو حسين: الفلسطيني… وصراع الحياة

قلت لأخي عبد الرحيم قبل سنتين وقد استبشرتُ بعودته إلى مكتبه بالجامعة الأميركية بعد أسابيع في المستشفى: “أنتم الفلسطينيّين الأكثر إصراراً على الحياة، لو كنتُ مكانك لاستسلمتُ من زمان”. فأجاب: “أشكرك على هذا المدح الذي يشبه الذمّ، لكنّنا لو قارنّا اللبنانيين هذه الأيام بالفلسطينيين لقلنا: أنتم اللبنانيّين الأشدّ إصراراً على الهلاك”.

قابلتُ عبد الرحيم أوّل مرّة أواخر تسعينيّات القرن الماضي بمكتب كمال الصليبي بالمعهد الديني بالأردن. أعطاني يومها كتاباً ومقالةً له، ومن طريق المقالة وليس الكتاب بدأت أُميّز بين آرائه وآراء أستاذه كمال الصليبي الذي كان تلميذه عبد الرحيم أبو حسين مستوعَباً تحت مظلّته الكبيرة.

انشغل كمال الصليبي ما بين أواسط الستّينيّات وأواسط السبعينيّات من القرن الماضي بالخصوصية اللبنانية التي راح يبحث فيها وعنها في جبل لبنان وكلّ جبال بلاد الشام. والصليبي بروتستانتيّ كان يرى في الفِرَق والطوائف الدينية المتمايزة عن الأكثرية قدرات عجائبية على إنشاء الكنائس والدول في الأزمنة الوسيطة والحديثة. وقد تركّز اهتمامه لهذه الناحية على أسطورة التأسيس اللبنانية مع الأمير فخر الدين، الذي تربَّى في كنف أسرةٍ مارونية بكسروان، والموارنة هم الذين بعثوا فيه روح المقاومة والاستقلال، وإلّا فهو من أصول سنّيّة ولا يمكنه التفكير والتصرّف خارج الأمّة والدولة العليّة العثمانية! لكنّ الصليبي الذي أعطى الموارنة صورةً مثاليةً من عنده ما اطمأنّ إلى الوقائع على الأرض بين 1968 و1975، والشخصيات الراديكالية التي تزعّمت المشهد مندفعةً إلى الحرب الداخلية. لقد رأى في ذلك نقضاً لفكرة الدولة وليس تأسيساً لها أو دفاعاً عنها. وكان كتابه الصغير “Crossroads” (1976) إدانةً لتصرّفات حزب الكتائب الذي أسرع إلى العنف، بدءاً للخروج على أسطورة الدولة القومية المسيحية اللبنانية البازغة في “سرّ آل معن”. قبلها كما بعدها كتب الصليبي في تاريخ لبنان الحديث، وتأمليّةً في “بيت بمنازل كثيرة”، وبقيت لديه آثار في خصوصيات الموارنة والدروز والمظلوميّة الإيجابية للشيعة والحيرة تجاه السُنّة في لبنان وسورية بين الاستخفاف والسلبية بشأن دعاواهم القومية العربية الحديثة، وأهليّتهم للسلطة.

خرج الصليبي إذن من أسطورة الخصوصية اللبنانية الفريدة إلى حدٍّ ما. لكنّ راديكاليّته البروتستانتية لم تفارقه، إنّما مضت باتجاهٍ معكوس: لقد اتّجه إلى نقض السرديّات السائدة لدى الأكثريّات في التاريخ القديم. السردية اليهودية، والسردية المسيحية، والسردية الإبراهيمية، والتاريخ القديم للأمم والدول في المشرق. لقد عاد بكلّ ذلك إلى “خصوصية” جزيرة العرب التي نشأ فيها كلّ شيء بدءاً بالأديان والأمم وانتهاءً بالتصوّر الجغراسي وحتى الجيولوجي والأنثروبولوجي للإنسان والعالم.

وعي الأقليات الأسبق؟

لقد أطلت في قراءة تحوّلات الفكر فوق التاريخي للتصوّريّ الكبير كمال الصليبي لأنّه أثّر كثيراً في بدايات الأستاذ عبد الرحيم أبي حسين، الذي تبنّاه ورعاه منذ العام 1971 عندما جاء طالباً بمنحة للجامعة الأميركية ببيروت. وبدا ذلك بالفعل في أطروحته عن “سرّ آل معن” وإن بدا نقديّاً. لكنّه بعد تحرّر الأستاذ من وهم الخصوصية، مضى أبو حسين متحمّساً بالاتجاه الآخر تماماً: باتجاه التاريخ الوثائقي والشغل العلمي على التاريخ العثماني وأقاليمه العربية بدون أفكار مسبقة، ولا اهتمام بعبقرية الأقليّات أو تميّزها الأخلاقي. كيف يمكن لأبي حسين الفلسطيني العروبي الساخط على الأحوال أن يدرّس طلّابه عن خصوصيّات الأقلّية ووعيها الأسبق وتفوّقها؟ لكنّه عندما انصرف لفضح سرّ آل معن والعائلات الدرزية والمسيحية الأخرى، فليس من وجهة نظر نقد الصورة المتخيّلة للتاريخ وحسْب، بل بالدرجة الأولى استناداً إلى تحديد السياقات من خلال الوثائق في القرنين السابع عشر والثامن عشر في تاريخ الدولة العثمانية.

إنّ هذا التاريخ الوقائعي الذي يستقصي المعطيات من الوثائق المقروءة قراءةً نقدية، لا يلبث أن يضمَّها بالتشابه والسياقات في “ظواهر” يُقبل على دراستها في مديات طويلة لتكون هي الصورة الجديدة للتاريخ

في النظام الإقطاعي العثماني تبرز هذه الشخصية أو تلك فتستولي على ممتلكات الجيران، وتختلف مع الوالي العثماني في دمشق فتعلن التمرّد على الوالي أكثر ممّا هو على الدولة العليّة، وتنشب حروب تنتهي بالإخضاع. حدث ذلك مع فخر الدين وظاهر العمر ومحمد باشا جانبولاد وعديد من “المقاطعجية” بالبلقان. وعندما ضعفت الدولة في القرن التاسع عشر، وتزايد النفوذ الأجنبي (وقد كان فخر الدين أوّل المستعينين به خارج البلقان)، صار الولاة أنفسهم هم الذين يثورون أيضاً، وأبرزهم بالطبع محمد علي باشا والي مصر وخديويّها فيما بعد، الذي استتبع عشرات المقاطعجيّة في بلاد الشام عندما جاءها مستولياً عام 1831، وما كان في ذهنه وتصرّفه أنّه يهجم على بشير الشهابي المستتبَع على الرغم من طول لحيته وهَول حواجبه بل على سلطان الدولة العليّة ذاته.

إنّ هذا التاريخ الوقائعي الذي يستقصي المعطيات من الوثائق المقروءة قراءةً نقدية، لا يلبث أن يضمَّها بالتشابه والسياقات في “ظواهر” يُقبل على دراستها في مديات طويلة لتكون هي الصورة الجديدة للتاريخ. لقد سمعتُ من الأستاذ عبد الرحيم، كما سمعتُ من عدنان البخيت، وخليل إينالجك ومن جمال كفادار وثريا فاروقي وآخرين، عن الفُرص التي أتاحتها في العقود الأخيرة الوثائق الهائلة الحجم والدقيقة المضامين والتي خلَّفتها سائر مؤسّسات الدولة العثمانية، والمؤسسات الأهليّة، والأوقاف، وسجلّات القضاء، وأرشيف الإدارة، بل والجهات المختلفة والمتكاثرة في كلّ الأقطار والولايات والتي كانت تتابع وتسجّل كلّ شيء بما يفوق الإمبراطورية الصينية القديمة. إنّه تاريخ بشري وإنساني، وليس تاريخاً رسمياً فقط.

معنى التاريخ ومآلاته

بيد أنّ الأستاذ عبد الرحيم الذي تواصل مع المدارس الحديثة والمعاصرة في كتابة التاريخ العثماني والعالم العربي الحديث، ما توقّف عند تغيير المنهج في الكتابة التاريخية على مشارف ظهور الدولة القومية في تاريخ العالم ونظامه، بل ومضى قُدماً باتجاه التفكير والكتابة في نظرية التاريخ، وفي معنى احتراف المؤرّخ ومعنى التاريخ ومآلاته. ما انتمى الأستاذ عبد الرحيم إلى مدرسة التاريخ اللبناني لاختلاف الفكرة واختلاف المنهج. وكما كان كمال الصليبي صاحب خصوصية ضمن أساتذة التاريخ بالجامعة الأميركية، فإنّ عبد الرحيم أبا حسين دشّن لزملائه وطلابه خصوصيةً بالدخول على المدارس المعاصرة في كتابة التاريخ، وأدنى إلى هوبزباوم ومدرسة الحوليّات وجاك دوبي وفرنان بروديل منه إلى جماعات الإبستمولوجيا والسلطة والمعرفة.

ظللتُ على تواصلٍ بالقراءة مع عبد الرحيم أبي حسين. ثمّ تصاحبنا عندما تقاعدت من الجامعة اللبنانية وذهبت للتدريس بالجامعة الأميركية. ما كان مكتبه بعيداً عن مكتبي، وقد اعتدتُ المرور عليه يومياً. وكان يفاجئني دائماً بأنّه قرأ هذا المقال أو ذاك لي بإحدى الصحف أو المواقع وأعجبه أو لم يعجبه. وكنّا نتبادل على الدوام المصادر والمراجع في الدراسات التي نقوم بها، ونتبادل أيضاً مكاشفات الودّ والإعجاب. وصحبة عبد الرحيم عذبة عذوبة الماء الزلال والفجر النديّ.

امتدّت سنوات وطالت على عذاب عبد الرحيم أبي حسين مع المرض العضال. ولسنوات تبادلتُ الحديث والإحساس بهول معاناته مع بلال ورمزي ومكرم بالطابق الرابع من الكوليج هول. إنّما قناعة كلّ فلسطيني كما تذاكرت مع عبد الرحيم أنّ “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة” على الرغم من الأهوال أو بسببها.

إقرأ أيضاً: خطاب الكراهية والعنف مرض عالميّ!

فلتستمرّ حياتك يا أخي في تلامذتك وزملائك وآثارك العلمية. لقد وصلت آلامك إلى مستقرّ، أمّا نحن فالمعاناة مستمرّة، في النفوس والأجساد وانتظار الأجداث، إنّما لا حسد في الموت بالطبع، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…