“محكمة الحريري”… والطائفة المغلوبة

لم يصدر عن حزب الله أيّ تعليق بشأن حكم المحكمة الخاصّة بلبنان في 16 حزيران على عضوين فيه بالسجن مدى الحياة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. بذلك يكون الحزب قد التزم ما أعلنه أمينه العامّ حسن نصرالله في 14 آب 2020 من أنّ “القرار الذي سيصدر عن المحكمة هو بالنسبة إلينا كأنّه لم يصدر (…) نعتبر أنفسنا غير معنيّين به”. وقتذاك كان نصرالله يستبق حكم المحكمة المقرّر بحقّ عضو ثالث في الحزب، والذي تمّ تأجيله بسبب الانفجار في مرفأ بيروت، ثمّ صدر في 11 كانون الأول 2020 وقضى بسجن المتّهم إيّاه مدى الحياة.

صحيح أنّ حزب الله اتّهم المحكمة منذ إنشائها بالتسييس على الرغم من أنّه كان عضواً في جميع الحكومات التي أعطت حصّة لبنان من تمويلها، والتي ضمّنت بيانها الوزاري فقرة عن المحكمة، وإن كان الحزب وحلفاؤه اشترطوا صياغة محدّدة لهذه الفقرة للقبول بها. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ حزب الله لم يُثبت تسييس المحكمة. والمسألة هنا غير مرتبطة حصراً بالشقّ القانوني، إذ إنّ أيّ جريمة سياسيّة هي غالباً ما تكون موقّعة لأنّها تأتي في سياق سياسي محدّد ولأهداف سياسية واضحة، وهو ما أشارت إليه المحكمة بوضوح في 11 كانون الأوّل 2020، وهذا ما يولّد حدساً عموميّاً في تعيين الجناة، ولذلك يحتاج تصديق تسييس المحكمة إلى دلائل كبرى وإلّا فإنّ الناس تصدّق حدسها، ناهيك عن دلائل المحكمة.

سلوك الحزب حيال قرارات المحكمة الدولية هو انعكاس واضح لمسار السياسة في لبنان بعد الحرب بما هو مسار انطواء كلّ طائفة على نفسها، تماماً كما كانت عليه الحال خلال الحرب

إذاً نحن أمام جريمة سياسيّة استهدفت زعيماً لطائفة معيّنة، وقد اتُّهم باغتياله أشخاص ينتمون إلى حزب من طائفة أخرى، بل يشكّل حالة حزبية طائفية غير مسبوقة في تاريخ لبنان بالنظر إلى خلفيّته العقائدية وديناميكيّته التعبويّة. وذلك يجعل من اغتيال الحريري اغتيالاً غير مسبوقٍ في تاريخ لبنان أيضاً، لا بالنظر إلى ثقل الرجل داخلياً وخارجياً وحسب، بل بالنظر أيضاً إلى معنى اغتياله في قاموس الاجتماع اللبناني. إذ لم يسبق أن اتُّهم عناصر في حزب مكثّف طائفياً ويدّعي يختزل التمثيل السياسي والاجتماعي والرمزي لطائفته باغتيال زعيم استثنائي لطائفة كبرى.

 

طرح القضية وطنياً

فهل حزب الله غير معنيّ حقّاً بأحكام المحكمة الخاصّة بلبنان كما ادّعى نصرالله؟

لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال إلّا حزب الله، ولعلّ جوابه، الذي يُعدُّ معلوماً حتّى الآن، يُحيل إلى نظرة حزب الله إلى لبنان دولةً ومجتمعاً. ولذلك فإنّ وضوحه في التعامل مع قرارات المحكمة في جريمة بهذا الحجم، يُفترض أن يستدعي وضوحاً في مخاصمته ومعارضته لا من منطلق طائفي وإنّما من منطلق وطني بحت، باعتبار أنّ قرارات المحكمة الدولية تطرح القضية الوطنية اللبنانية للمرّة الأولى بهذا الوضوح لا منذ انتهاء الحرب الأهليّة، وإنّما منذ استقلال لبنان.

المسألة هنا ليست قانونية بحت، على أهميّة شقّها القانوني المتّصل بتحقيق العدالة. لكن حتّى تحقيق العدالة فهو ليس مفهوماً تقنيّاً مجرّداً، بل يحمل مضموناً سياسياً – اجتماعياً مرتبطاً بأصل العقد الاجتماعي الذي ينبني على فكرة العدالة بجميع مستوياتها. وهو ما يحيل إلى التبعات السياسية – الاجتماعية لقرارات المحكمة الدولية. وهي تبعات لا يمكن لحزب الله ألّا يكون معنيّاً بها إلّا إذا كان يتبنّى مشروعاً سياسياً “انعزاليّاً” بكلّ معنى الكلمة، أي مشروع لا يسعى إلى الوصل الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي بين اللبنانيين، بل إلى الفصل بينهم. وفي المقابل فإنّ عدم طرح هذه القضيّة يشكّل أحد روافد التطبيع مع فكرة حتميّة الفصل بين اللبنانيين، وترجمة هذا الفصل اجتماعياً وسياسياً وحتّى دستورياً.

وفق هذا التوصيف يمكن القول إنّ تصرّف حزب الله مع قرارات المحكمة هو حتّى الآن تصرّف لا يأخذ في الاعتبار ارتداداتها الاجتماعية قبل السياسيّة على المدى البعيد، وتحديداً على وتائر العلاقات بين السُنّة والشيعة. إذ إنّ الحزب بتجاهله أحكام المحكمة إمّا يعتبر أنّ هذه الطريقة هي الأنسب لطيّ صفحتها، وإمّا أنّه لا يقيم أدنى حسابٍ لِما قد يترتّب على هذه القرارات من تأثيرات عميقة في “الصيغة اللبنانية”، وهذا الأخطر.

لكأنّ الحزب بتصرّفه هذا يؤكّد أنّه حالة معزولة عن الاجتماع اللبناني، بمعنى أنّه ليس مضطرّاً إلى التقيّد بقواعد هذا الاجتماع التي تؤكّد بداهةً أنّه لا يمكن لأيّ طائفة أن “تعتدي” على طائفة أخرى أيّاً يكن نوع هذا التعدّي. وهذه قواعد لا يمكن تجاوزها بحجّة أنّ الديناميكية التغييرية في البلد تفترض سلوكاً وأدبيّات سياسية مختلفة، خصوصاً أنّ تجاوزها في حالة جريمة اغتيال رفيق الحريري التي لم ترهب ضحاياها المباشرين وحسب، بل أرهبت الشعب اللبناني بوجه عامّ، كما أعلنت المحكمة، هو تجاوزٌ لفكرة العدالة نفسها، وإلّا تتحوّل هذه الديناميكية إلى موجة نخبوية شعبوية لا تطرح ولا تعالج المشكلات اللبنانية البنيوية بعمق، وتخلق في المقابل صورة ضبابية عن لبنان الذي تطمح إليه.

نحن أمام جريمة سياسيّة استهدفت زعيماً لطائفة معيّنة، وقد اتُّهم باغتياله أشخاص ينتمون إلى حزب من طائفة أخرى، بل يشكّل حالة حزبية طائفية غير مسبوقة في تاريخ لبنان

الطائفة المغلوبة

عليه فإنّ سلوك الحزب حيال قرارات المحكمة الدولية هو انعكاس واضح لمسار السياسة في لبنان بعد الحرب بما هو مسار انطواء كلّ طائفة على نفسها، تماماً كما كانت عليه الحال خلال الحرب. والمفارقة أنّ رفيق الحريري كان يخوض في مسار مختلف لأنّ شرعيّته الأساسية كانت متأتّية من كونه رجل السلم والإعمار، وهي شرعية كانت تتطلّب سلوكاً مختلفاً عن زعماء الميليشيات الذين ارتبطت أسماؤهم بخطوط تماس الحرب الأهليّة وبوسط بيروت المدمّر.

طبعاً لا يمكن الظنّ للحظة أنّ الحزب يمكن أن يسمح بتعقّب جدّيّ للمحكومين باغتيال الحريري الذي تسبّب بمقتل 22 شخصاً آخرين، أو حتّى أن يصدر عنه أمرٌ مقنعٌ بخصوصهم. وهذه معضلة كبرى لأنّها تؤكّد أن لا أمل في إعادة إنتاج لبنان وفق فكرته الرئيسية بما هو وطن يجتمع فيه أفراد من طوائف وثقافات مختلفة على مصالح مشتركة وفق صيغة سياسيّة قابلة للتطوّر وتجاوز أعطابها. فإذا بهذه الأعطاب تكثر وتتفاقم ويصعب حلّها، ولا سيّما عطب الاختلالات بين الجماعات الطائفية. وقد شكّل اغتيال الحريري منذ عام 2005 أقوى صورها وأشدّها خطورة. وعلى الرغم من ذلك فإنّ حزباً طائفياً كبيراً يتصرّف حيال هذا العطب كأنّه مسألة عابرة يمكن تجاوزها، لكنّ هذا التجاوز بالشكل الذي يأخذه ليس تجاوزاً للعطب بمقدار ما هو تجاوزٌ للبنان بما هو “وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد، أرضاً وشعباً ومؤسسات”، كما تنصّ مقدّمة الدستور.

إقرأ أيضاً: محكمة الحريري للمرّة الأولى: الحزب قتل الحريري

المفارقة أيضاً أنّ الطائفة السنّيّة التي كانت تاريخياً صاحبة مقولة “لا غالب ولا مغلوب”، ما فتئت منذ لحظة اغتيال الحريري، الطائفة المغلوبة، فهل من غلبة أشدّ من اغتيال رفيق الحريري؟ وهل من غلبة أشدّ من إنكار حكم المحكمة الخاصة باغتياله؟

ساعتذاك تصبح غلبة رئيس الحكومة السنّيّ تحصيلَ حاصلٍ، أو أخفّ “التغلّبات الوطنيّة”!

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…