ليس العراق سوى مركب سكران

توقّع محتجّو تشرين 2019 أنّ العراق بعد كلّ ما شهده من أحداث مأساويّة عبر سنوات الاحتلال وبعده سيكون قريباً من قيامته. والعراقيون غالباً ما يفكّرون في ظهور المهدي المنتظر بطريقة مجازية. ولأنّه لم يرَه أحد فإنّ مصيرهم سيكون دائماً في طيّ الكتمان.

كان الأميركيون على قدر عالٍ من الخبث حين صمتوا عن قانون اجتثاث حزب البعث، فمن خلاله أنهوا آخر مظاهر الحياة الحزبية الوطنية وأحلّوا بدلاً منها حياة حزبية غير متشبّثة بالأرض بسبب أنّ مكوّناتها لم تعُد تملك جذوراً راسخة في الوطن.

فالحزب الشيوعي العراقي، وهو الأكثر تاريخيّة، كان أعضاؤه قد تشتّتوا بين جهات الأرض وعاشوا في ماضٍ حزبي صاروا يستحضرونه عبر أغانيهم كما لو أنّه زمن أبديّ لا يتغيّر من غير أن يلتفتوا إلى ما يُحدثه الزمن من تحوّلات عميقة في المعاني.

لم يكن أفراد الطبقة السياسية التي سلّمها الأميركيون السلطة ومقاليد الحكم عملاء للدول التي منحتهم جنسيّاتها ولا للمخابرات البريطانية والأميركية التي أشرفت على تجنيدهم وتثقيفهم بما يتناسب مع مشروع الاحتلال الطويل الأمد، بل كانوا على استعداد أصلاً للقيام بالدور المطلوب منهم من غير أن يرتبطوا بتلك الأجهزة.

تكن إيران في حاجة إلى استئجار عملاء لها في العراق. لقد جلبت الولايات المتحدة عملاء عقائديين يوالون إيران ضدّ العراق من مختلف أنحاء الأرض

صارت الخيانة طبعاً بحكم سوء النيّة الذي تطوّر إلى رغبة في الانتقام، ليس من نظام البعث وحسب، بل ومن الشعب الذي ذاق مرارة البقاء في ظلّ حكم البعث وقاوم من خلال بقائه حيّاً في ظروف نادرة بمأساويّتها في التاريخ البشري.

في ذلك السياق لم تكن إيران في حاجة إلى استئجار عملاء لها في العراق. لقد جلبت الولايات المتحدة عملاء عقائديين يوالون إيران ضدّ العراق من مختلف أنحاء الأرض، ومن ضمنها إيران، لتضعهم على رأس السلطة وتفتح لهم خزائن الأموال العراقية وتجعلهم يحكمون من غير رقابة أو مساءلة أو خوف من عقاب.  

كانت الديمقراطية الأميركية فكرة مضلِّلة في عراق تحكمه تنظيمات دينية التحق الشيوعيون بأحدها بعدما تمّ حرق مقرّاتهم بمَن فيها في محاولة لدفعهم إلى الانتحار السياسي الذي سيُنهي سيرتهم التاريخية باعتبارهم قوّة يسارية تقدّمية ظلّت متمسّكة بشعارات الشيوعية التي تخلّت عنها الأحزاب الشيوعية في مختلف أنحاء العالم. اقتنع الشيوعيون منذ البدء بضرورة ألّا يتأخّروا عن الحافلة التي أقلّت المتعاونين مع الاحتلال، فكان زعيم حزبهم عضواً مناوباً في مجلس الحكم، وهو السلطة الأولى التي أسّسها بول بريمير الحاكم المدني الممثّل لسلطة الاحتلال لتكون نموذجاً لدولة الطوائف التي ستحلّ محلّ ما سُمّي بدولة البعث، والمقصود بها دولة العراق التاريخي.

يومئذ انتهى العراق بدولته القوية ومجتمعه الموحّد والمتماسك.

ما بعد ذلك فإنّ الانهيار العظيم لا يمكن البناء عليه. فالحديث عن البدء بتأسيس جمهورية جديدة كان نوعاً من اللغو الفارغ الذي تداوله المثقّفون الذين تبنّوا ثقافة الاحتلال أو تسمّموا بمفرداتها من غير أن يجري على ألسن أفراد الطبقة السياسية الذين هم في حقيقة أمرهم محتالون ومهرِّبون ومزوِّرون وأمّيون وقطّاع طرق وخدم حسينيّات ومرشدو حملات دينية وحسب. كان مشروعهم الوحيد في العراق بعد تحريره حسب زلماي خليل زاده أن يتمّ السماح للعراقيين باللطم والنحيب والسير في المسيرات الجنائزية.

إقرأ أيضاً: الصدر ينسحب.. ويحضّر “لانتفاضة شعبية”

أمّا حين دخل المرجع السيستاني على الخط السياسي فإنّه دعا أتباعه إلى التوقيع على الدستور الجديد الذي محا عروبة العراق حين اعتبر العرب جزءاً من مكوّنات العراق. ولم يُفْتِ المرجع الشيعي الأعلى بمقاومة الاحتلال، بل على العكس من ذلك أفتى بحرمة الامتناع عن المشاركة في الانتخابات التي أُجريت في ظلّ الاحتلال. أمّا فتواه في ما يتعلّق بتفجير ضريحَيْ سامرّاء فكانت سبباً في نشوب حرب أهليّة استمرّت عامين قُضي فيها على الكثير من الأبرياء.

ليس العراق في ظلّ تلك المعطيات سوى مركب سكران.  

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…