بغداد التي وجدها الساحر أرنباً ميتاً تحت القبّعة

“لقد ضعت في الدروب الضيّقة التي تقود إليك”، هل كان عليّ أن أعترف بتشرّدي؟

في اليوم الأخير، اليوم الذي صنعت فيه الشمس ظلالاً للأشجار وصار الربيع يمشي بخُيَلاء في دروب الغابة، كما لو أنّه نجل الإمبراطور الذاهب إلى الموت.

“نهاري أنا في ليلك المطرّز بالنجوم”، هذه صفتي وأنا أرغب في زخرفتك. لأصل إليك كانت لديّ خرائط. أبدأ من النخلة. أتسلّل إلى الجذع الخشن. هذه البلاد ملغومة بالأفاعي. أقرأ في النسب. حطّي كلمن. تحت كلّ حجر سلطان. لن يكون هناك كرسي ناقص في خان مرجان. سوف يرفض شعوبيّ العزف على الجوزة. لا بأس من أن تقضي ساعات الظُهر في سوق الغزل. سيمرّ الشيخ جلال الحنفي ولا يراك. هل أنت معنا أم أنت عدوّنا؟ ميزان الحنطة ثقيل.

كانت بغداد تمشي بنا إلى مصيرها. كانت عاقلة يا رجل مثل جابي الحافلة. كان هناك عبد الأمير الحصيري وحسون أميركي وجان دمو وسلمان السعدي وعبد المحسن السعدون

أسأل العنبر أن يعود إلى المشخاب. الغربة مؤلمة. هنا الكلام مرتبك.

تنزل الدرج. المرأة تحلم بسطح الدار. النوم هناك يعني أن ترى الملائكة وهي تعلّق باقات الثوم من أجل أن تجفّ. ما من ياسمين. لقد تخطّينا سنّ المراهقة. تنزل الدرج. المرأة نفسها تحلم بالسرداب. سأشقّ بالصرخة فم الحوت وأهبط إلى البئر. أنا حسين مردان أو مرآته التي تذوب قبل أن يتبخّر الإلهام. لدينا من الزئبق ما يكفي لاختراع الذهب الذي لا يذهب إلى السوق. ثقيلة قدماه.

فصل أخير من السنة. فصل صعب مثل أمّ تنتظر. هل رأيتني في برج كنيسة الأرمن مترنّحاً مثل جرس؟ كادت الأربعاء تعود إلى الأحد وكادت الثواني تقفز من الساعة وما من عقارب. أنا هناك من أجلك. سمراء من قوم عيسى. أنا لا قوم لي. فتى ضائع عثر على كرمة فنام في رائحة نبيذها. في قارورة منسيّة. أسأل الوتر أن يردّني إلى الإصبع وأمتحن الإصبع في كرامته من أجل أن يعيد كلّ نغمة إلى المكان الذي جاءت منه. لا بأس. ستقفز النغمات مثل الأقزام من على المائدة وأبقى وحيداً. سيكون عليّ أن أتعشّى وحدي. أنام لأحلم بصواع الملك. كان أحد ما قد سرقه. أقصد صواع الملك. كان أحد ما قد انتحل صفة الحاكم. أقصد يوسف. في الوقت الذي دُعيت فيه إلى الاعتراف فقدت الرغبة في تكملة الحلم.

“سأكتب رواية عن يديها”

أضع خاتمي على الأرض وأمتحن اللغة. ضرير وأحدّثك عن الزهور.

بالإصبع أقيس المسافة بين زهرتين. يمحو الصمغ بصماتي. يا لها من ورقة. خضراء كما لو أنّها حقل. لقد رأيت اسمي على ذيلها، ولكنّ الأسماك خطفتها. خطفت الورقة. أثقب السماء السابعة لأهبط إليك. لقد قُدِّر لي أن أكون ملاكاً. لقد قُدِّر لملاكٍ ما أن يتّخذ منّي ذريعة لكسله. لكنّه حين حضر وقد وضع زهرة في مفرق شعره بدا كما لو أنّه قد اخترع شكلاً جديداً للملاك. “لقد بُلينا فجدّدنا”، يقول أبو حيّان. كنت في السادس من كانون الثاني أبحث عن حزامي تحت معطف رجل مسرع فاته القطار. في الثامن من شباط نسيت رأسي تحت المقصلة وصار المارّة يضحكون من رأس حليق ينظر بعينيّ ميت سابق. “لقد شُبّه لي”، قلت في السابع من نيسان، وهو أقسى الشهور حسب إليوت. الجثّة إلى جانبي وفي صدري عصفور. انفصلتُ عن الساعة وقلت لها “لنبكِ معاً”، لم يكن هناك عقارب. كانت هنالك أرض. أرض وديعة مثل ابتسامة شيخ. قالت “سأدلّك إلى الطريق التي تقود إليّ”. رسمتْ شرفة. كما لو أنّ أحداً قد مشى وبعدما مشى نام وبعدما نام نما له جناحان وصار يحلّق بهما فوق المدينة.

“الرشيد” كلّه شرفات. من فوق شرفات ومن تحت أعمدة. نُقبل سكارى. نمسّ الرصيف بأقدام نعامات ونضرب الأعمدة بريش أجنحتها ونمحو الشرفات بعيونها

“لقد رأيتك”، قال لي والتفت كما لو أنّه لم يكلّمني.

قدمي على السلّم والسلّم من ريش وما من حمامة في الأفق. كانت هناك شرفات. “الرشيد” كلّه شرفات. من فوق شرفات ومن تحت أعمدة. نُقبل سكارى. نمسّ الرصيف بأقدام نعامات ونضرب الأعمدة بريش أجنحتها ونمحو الشرفات بعيونها. من هناك كنّا ننظر إليك. كان ثوبك أبيض وضحكتك بيضاء وطبقك ممتلئ بالتمر. تبارك الخلّاق. سبع عيون، كلّ عين هي كنز. يا حسّاد العالم اتّحدوا. الفاتنة تمشي بإستبرقها، الهواء يهذي برضاب شفتَيْها. من الحيدرخانة حتى باب الآغا أبخرة لناي مغوليّ. دعوا الجميلة تمرّ. أبيض منديل الوداع. خضراء ضربة القدم. بنفسجيّة السلّة التُلقى في جوف البئر.

مشت فمشينا. وقفت فوقفنا.

الملكة ثدياها حجلتان.

كان علينا أن نتعلّم أصول المهنة في شارع الرشيد. “لا يقع الإلهام من السماء”، كان موسى كريدي يكرّر. كانت القطط الوحشيّة تقفز من رصيف إلى آخر. قطط غير مرئية تترك أثراً سيكون علينا أن نتبعه لنتعلّم كيف نكتب. كانت القيامة تقع في الزقاق المجاور لمقهى أمّ كلثوم، بعد إصبعين من سوق هرج، في أنين المعدن في سوق الصفافير، على بلاطة من شارع السموأل، بين كيسَيْ توابل في الشورجة، على غلاف كتاب في مكتبة مكنزي، في صيحة سائق بحافظ القاضي، على عتبة أورزدي باك، بين أزقّة سيّد سلطان علي، أمام سينما علاء الدين. في الربع الأخير من الليل ونحن نتنفّس هواء الحرّية أمام نصب جواد سليم. يقول الطفل الذاهب إلى جسر الجمهورية وهو من البرونز: “لقد وصلنا أخيراً”.  

وصل الفلاحون. الفلاحون أخيراً وصلوا.

ما من مدينة. البستانيّ اعتذر وترك حديقة المنزل معتذراً. الحقيقة تتألّم. البستانيّ يبكي. كانت المدينة قد اختفت فيما كانت أقدامنا تتلقّى الإلهام من شوارعها. كنّا نمشي في شوارع مدينة محت أثرها من الخارطة. صديقتنا في النسيان. لقد تمكّنت منّا رعويّتنا فانزلقنا إلى عقارب الساعة. ألهمنا الوقت الصبر في واديك. كانت الجنازات تمرّ. قلنا بغبطة “سنكون بغداديّين. ما من ميت يغفر خطيئة ميت يسبقه. الموتى مستقبليون. مثلنا تماماً”، عجباً لتلك الـ”تماماً” تمرّ في ثقب الإبرة وتتنفّس هواء البعير وتظلّ جاهزة للاستعمال. كان علينا أن نتعلّم الإلهام. صرخ جابي الحافلة: “باص رقم أربعة لا يحمل إلا السفلة. بل الشواذ”. التفت إلينا: “ستمشون على أربع. مؤخّراتكم مثقوبة”. كان جاري يضع ربطة عنق زرقاء على ياقة قميصه الأصفر. هزّ رأسه متألّماً. “لن يصل هذا الرجل إلى بيته”، قال لي في الوقت الذي يربّت على حقيبته السمسنايت. “ألا تظنّه مجنوناً؟”، سألته رغبة في تليين مزاجه. اكفهرّ وجهه. قال لي بعد لحظة صمت: “لو كنت مكانه لسحبت مسدّسي وقتلت الجالسين في الحافلة. هذا رجل عاقل يا صديقي”.

إقرأ أيضاً: مقتدى الصدر… على خطى “بول بريمر”

كانت بغداد تمشي بنا إلى مصيرها. كانت عاقلة يا رجل مثل جابي الحافلة. كان هناك عبد الأمير الحصيري وحسون أميركي وجان دمو وسلمان السعدي وعبد المحسن السعدون. كانت هناك عاتكة الخزرجي ونازك الملائكة وسليمة خضير ونزيهة الدليمي. كان هناك فهمي المدرّس والأب إنستاس مار الكرملي ومصطفى جواد وطه باقر. كنّا نمشي بأقدام أحبّتنا الموتى ونحلّق بأجنحة كائنات خيالية ستمشي بنا إلى خيالها. كنّا أجنّة في قبّعة الساحر. كم كنّا نحبّ مدينتنا.                

“هناك أرنب ميت تحت القبعة”، سيقول الساحر.

* كاتب عراقيّ مقيم في السويد

إقرأ أيضاً

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…

“حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟

لماذا تعمّدت طهران ليلة السبت المنصرم الكشف عن كلّ تفاصيل خطة الهجوم الذي أعدّته ضدّ تل أبيب انتقاماً لاستهداف قنصليّتها في دمشق قبل أسبوعين والتسبّب بسقوط قيادات…

بايدن الرابح الأكبر من الضربة الإيرانيّة لإسرائيل

 ربح جو بايدن مزيداً من “المونة” على إسرائيل يمكّنه من لجم اندفاعها العسكري ضدّ إيران بعد توظيفه الدفاع عنها في المشهد الانتخابي. اكتسبت طهران موقع…