ملحم رياشي بين امرأتين

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعيّ أواخر الأسبوع الماضي صورة جمعت النائبتين غاده أيّوب وندى البستاني ترتديان فستاناً أحمر، يتوسّطهما النائب ملحم رياشي، وأخرى جمعت النائبين جورج عدوان وإبراهيم كنعان. التُقطتا خلال جلسات انتخاب اللجان النيابيّة، وعكستا التفاهمات فيها. تفاهمات فرضتها طبيعة الانتخابات. فالنواب اليوم زملاء في مجلس واحد وفي لجنة عمل واحدة. عليهم التعاون فيما بينهم لإنجاح عمل المجلس، وإلّا انسحب التعطيل على أمّ المؤسّسات الدستوريّة. وهذا كارثيّ في الحياة الديمقراطيّة، خاصة في هذه الظروف الاستثنائيّة.

تعرّضت الصورتان لانتقادات من قبل بعض قدامى المحاربين في القوّات اللبنانيّة. الانتقادات لجورج عدوان كانت أقلّ بكثير من تلك التي وُجّهت إلى الرياشي. والسبب أنّ الأوّل ينتمي إلى هذا الرعيل. فهو من مؤسّسي القوّات حين كان رئيساً لـ”التنظيم”. شارك في الحرب. قاد رجاله في معاركها. وسقط له فيها شهداء.

أمّا رياشي فهو من الجيل الجديد في القوّات. دخلها في عام 2012 رئيساً لجهاز الإعلام والتواصل. قبل ذلك كان إعلاميّاً ومستشاراً للوزير السابق الياس المرّ ومقرّباً من الراحل ألبير مخيبر. لذلك على الرغم من مرور عشر سنوات على عمله في القوّات وتبوّئه المناصب الوزارية والاستشارية، واليوم النيابيّة، لا ينظر إليه العديد من أبناء الرعيل النضاليّ في القوّات على أنّه منهم.

تعرّضت الصورتان لانتقادات من قبل بعض قدامى المحاربين في القوّات اللبنانيّة. الانتقادات لجورج عدوان كانت أقلّ بكثير من تلك التي وُجّهت إلى الرياشي

القاعدة القواتية، وبعض المؤثّرين من المتحمّسين، ينظرون النظرة نفسها تجاه الطبيب فادي سعد الذي شغل لسنوات منصب الأمين العام للحزب وكان نائباً عنه في البترون. ولكنّه بقي غريباً عن الحزب، والحزب غريباً عنه. كذلك الأمر بالنسبة إلى الدكتورة شنتال سركيس الأمينة العامّة السابقة للحزب. فهي لم تتعرّف إلى القوّات، ولم يتعرّف إليها القوّاتيون. وحين استقالت من منصب الأمين العام، استقالت من الحزب!

لكن ألا يكفي الانتماء الحزبي ليكتسب المحازب شرعيّته القوّاتيّة؟

يبدو أنّ الحال في القوّات ليست كذلك. والسبب أنّ القوّات مقاومة قبل أن تصبح حزباً سياسياً. بالنسبة إلى قدامى المحاربين تُكتسب الشرعيّة القوّاتية بمعموديّتين، أو بواحدة منهما:

– المعموديّة الأولى هي معموديّة النار والدم. وقد خاضها القدامى عندما تركوا مدارسهم وجامعاتهم والتحقوا بمعسكرات التدريب وخاضوا المعارك جنباً إلى جنب. هذه المعموديّة جعلت من القوّات جماعة داخل المجتمع المسيحيّ، وجعلت من الجهاز العسكري جماعة خاصّة داخل القوّات التي كانت تتألّف من عدّة أجهزة سياسيّة وإعلاميّة وإداريّة وماليّة. ما يؤكّد ذلك الأمر هي العصبيّة (بالمعنى الخلدونيّ للكلمة) بين قدامى المحاربين، وهي لا تزال تجمعهم حتى اليوم وتميّز لقاءاتهم. هذا ما لمسته في لقاء التعزية عن لبنان جعجع والد جورج وإيلي وزوجة حبيب. إنّه لقاء جمع عدّة أجيال من المحاربين القدامى، لكنّهم بدَوا جماعةً واحدة. هذه العصبيّة هي أيضاً الدافع لملحم (ليس رياشي) لكي يتصفّح يوميّاً عمود الوفيات على موقع القوّات والاتصال من فرنسا برفيق أو رفيقة للتعزية عن فقدان قريب.

– المعموديّة الثانية بالنسبة إلى قدامى المحاربين هي معموديّة الاضطهاد والتعذيب. بعد حلّ الميليشيات استمرّ هؤلاء في القوّات. وبعد اعتقال سمير جعجع زاد التزامهم وأصبح تحريره هو القضيّة. خاضوا النضالات إلى جانب ستريدا، التي هي بدورها قبلت المعموديّة الثانية بصمودها في تلك المرحلة. دخلوا السجون. تعرّضوا للتعذيب. اتُّهموا زوراً. حوكموا وحُكم عليهم. تعرّضت زوجاتهم للتهديد. ارتعب أولادهم خلال مداهمات منازلهم. فكان اضطهاد النظام الأمنيّ السوريّ – اللبنانيّ أشدّ قسوة عليهم من المعارك العسكريّة. وأكثر ما آلمهم رفضُ قسم من مجتمعهم لهم وتنكّره لتضحياتهم.

 

هل حالة قدامى المحاربين خاصّة بالقوّات؟

إنّها حالة موجودة في كلّ حركات المقاومة والجيوش. إنّهم الـ Veterans (قدامى المحاربين) في الجيش الأميركي. العديد من رؤساء الولايات المتحدة الأميركيّة والوزراء والسيناتورات كانوا يتباهون بانتمائهم إلى هذه الجماعة. اليوم يستعدّ العديد من الـ Veterans لخوض الانتخابات النصفيّة في تشرين الثاني المقبل. غالباً ما يتعاطف معهم الشعب الأميركي، بخاصّة مع المصابين منهم. بالنسبة إليه، إنّهم الضبّاط والجنود الذين دافعوا عن أميركا. هذه الحالة موجودة أيضاً في فرنسا. وقد أسّست الدولة الفرنسيّة “المكتب الوطني للمحاربين القدامى ولضحايا الحرب” تقديراً لتضحياتهم وحفظاً لذكراهم.

في القوّات يفتخر قدامى المحاربين بوصول عناصر منهم إلى مواقع سياسيّة (وزير أو نائب). لذلك يطلقون على طوني زهرا لقب “النمر”. ويتحمّسون لخطاب بيار بو عاصي. ويتداولون تغريدات ريشار قيوموجيان. واعتبروا أنّ معركة أنطوان حبشي في 2018 وبالأمس معركتهم ولو أنّهم ينتمون إلى دوائر انتخابيّة أخرى.

حالة قدامى المحاربين موجودة في ضمير الأجيال الشابّة في القوّات. ينظرون إليهم على أنّهم القوّات وعصبها وقوّتها، خاصّة أنّهم يؤكّدون في وقت الخطر أنّهم قوّات حتى لو لم يكونوا أعضاء في الحزب اليوم. هذا ما يُظهره رفعُ جيل الشباب في الحزب لراية الصدم (فرقة النخبة) في بعض المناسبات إلى جانب راية القوّات، وتداولهم لصوَر أكرم القزح قائدها وديب مطر أسطورتها على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ويردّدون شعارها “حيث لا يجرؤ الآخرون” الذي ردّده سمير جعجع أكثر من مرّة في خطاباته. يجسّد تصرّف الجيل الشابّ في القوّات شعار “أجيال تكمّل أجيال” الذي طالب باعتماده بعض قدامى المحاربين في موقع القيادة بدل شعار “أجيال تسلّم أجيال”.

إقرأ أيضاً: إليزابيت الثانية وبرّي “الأوّل”

في الخلاصة ليست المسألة صورة مع نائبة ترتدي فستاناً أحمر، إنّما هي قضيّة تاريخ نضال خُطّت حروفه بالدم وتجسّده راية القوّات مع الأرزة المسيّجة بالأحمر.

يُنسب إلى الرياشي قراءة أخرى لدوره. فما ليس واضحاً بالنسبة إلى القاعدة القواتية، باللغة “العسكرية” التي يمكن إسقاطها على هذه البيئة أنّ دور رياشي هو أشبه بضابط الارتباط، وليس جزءاً من “فرقة الصدم”، أو المجموعات المقاتلة. رياشي، لمن لا يعرف سيرته، كان دوره توفيقياً بين المرّ ومخيبر، وبين مخيبر وخصومه، وصولاً إلى فوزه بالمقعد النيابي. وقضى طفولته وشبابه قريباً من بيئة القوات، شقيقه كان مقاتلاً في القوات، لكنّه ملحم كان أقرب إلى الرهبان وإلى الدراسة والكتابة والقراءة. وسرعان ما برز دوره كوسيط وكمُحاوِر وكمُفاوِض. هذه مهمّة رياشي في القوات. أن يكون حلقة الوصل. وهذه الصورة تكمن في صميم مهمّته، أن يقف بين نائبة قواتية ونائبة عونية. أن يكون جسراً بين المتخاصمين. أن يعطي صورة “التآلف”، خصوصاً المسيحي. فكيف بمهمّة تبدو مستحيل، وهي “التوفيق بين امرأتين متخاصمتين؟

ولو سُئِل الرياشي عن معموديته، لأجاب أنّه لم يطلب يوماً أو يطالب بشرعية كهذه أو باعتراف أو معمودية، وكأنّ بينه وبين سمير جعجع سرًّا  لا يملكه سواهما. وفي حين يهتم كثيرون بظاهرة ملحم الرياشي وبه، في ما لا يعنيه هو ولا يهمه… فالرجل هو هو وهكذا هو.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…