بوصلة سوريا: “قيصر” وحفّار القبور

بوصلة سوريا: “قيصر” وحفّار القبور

بوصلة سوريا: “قيصر” وحفّار القبور

مدة القراءة 6 د.

في 8 حزيران تقدّم “حفَّار قبور” بشهادة أمام الكونغرس تتعلّق بانتهاكات قام بها نظام دمشق وجرائم حرب ارتكبها ضدّ المواطنين. وعلى الرغم من قساوة ما رواه، إلا أنّه يندرج ضمن سلسلة من الشهادات والتقارير التي وصفت الكارثة التي حلّت بالبلد منذ عام 2011. وإذا ما قادت شهادات “قيصر” منذ عام 2014 إلى سنّ قانون باسمه عام 2019 تفرض واشنطن عقوبات على دمشق وفق نصوصه، فإنّ الشهادة الجديدة أمام الكونغرس تكشف عن سياسة المؤسسة التشريعية حيال النظام في سوريا التي لم تحِدْ عنها الإدارات المتعاقبة.

يشكو السوريون، وحتى فرقاء الصراع من غير السوريين، غياب سياسة أميركية تجاه الملف السوري منذ إدارة باراك أوباما. ومع ذلك بات واضحاً أنّ “لاسياسة” واشنطن هي موقف سياسي بحدّ ذاته تنتهجه الولايات المتحدة في شأن سوريا كما بشأن ملفّات صراع أخرى ليست أولويّة في الأجندة الأميركية الاستراتيجية.

على قاعدة “الفراغ” الأميركي المفترَض تحرّكت سوريا الداخل، نظاماً ومعارضةً، في مراحل سابقة للعبث بالتوازنات وفرض خرائط بديلة. ووفق تلك المسلّمة راحت روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل ترسم مناوراتها السورية على نحو تجريبي بين ما هو ممكن وما هو مستحيل. ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من عقدٍ على “الكابوس” السوري، فإنّ فرقاء الصراع الكبار ما زالوا عاجزين عن اجتراح مخارج للمأزق السوري من دون إزالة “فيتو” واشنطن ورفع موانعها.

ما زال الموقف الأميركي رافضاً لأيّ سعيٍ إلى تعويم النظام في سوريا وفق الخارطة التي حاولت روسيا تسويقها لدى دول المنطقة كما لدى العواصم الدولية الكبرى. ما زال الموقف الأوروبي-الأميركي رسميّاً يرفض أيّ انخراط في أيّ تسوية أو الإفراج عن ميزانيات إعادة إعمار سوريا حتى يتمّ الانتقال السياسي على النحو المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن 2254. وإذا ما لاحت أعراض عربية توحي بإمكانية استعادة دمشق لمقعدها داخل جامعة الدول العربية أو تطبيع العلاقات الثنائية معها، فإنّ الأمر بقي ضجيجاً بدون حجيج، على نحو لا يمكن تفسيره إلا بعدم توافر رافعة غربية تبيحها الولايات المتحدة بهذا الصدد.

تتحدّث مصادر عن مداولات متعدّدة الأطراف شملت أخيراً الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وعدداً من الدول العربية الرئيسية بدأت تقود إلى استنتاجات تفيد بعقم التعويل على الفصل بين نظامَيْ دمشق وطهران

لا تندرج سوريا ضمن الهموم الأميركية. بل لطالما اعتبرتها الإدارات فرعاً من أصول يجري التعامل معها. تعتبر واشنطن أنّ أهميّة سوريا ترتبط بما يمكن أن تشكّله من خطر على إسرائيل، وهو أمر أدركته روسيا أيضاً بحيث لم يجرِ تدخّلها في سوريا إلا بناء على تفاهمات أُبرمت بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو. وما دامت إسرائيل تمسك بزمام الأمور في هذا الملف، فإنّ الولايات المتحدة غير معنيّة بأكثر من ذلك. حتى العلاقات المتقدّمة مع أكراد “قسد” هي، بإدراك الطرف الكردي، بيدق متحرّك يسهل التخلّي عنه.

فشل مساعي “تدجين” الأسد

تتحدّث مصادر عن مداولات متعدّدة الأطراف شملت أخيراً الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وعدداً من الدول العربية الرئيسية المعنيّة بالشأن السوري بدأت تقود إلى استنتاجات تفيد بعقم التعويل على الفصل بين نظامَيْ دمشق وطهران حتى لو تقدّم العرب باتجاه النظام في سوريا. وكان لافتاً في هذا السياق أنّ التوتّر على الحدود السورية الأردنية وشكوى عمّان من ميليشيات تابعة لإيران تهدّد أمن المملكة، أتيا بعد أقلّ من عام على ما حُكي عن سعيٍ قام به الملك عبد الله الثاني في تموز 2021 لدى الإدارة الأميركية والرئيس جو بايدن بالذات لتسويق خريطة طريق لسوريا يكون النظام واجهتها الأساسية.

تتقاطع تقارير دبلوماسية غربية وعربية تؤكّد إحباط إيران كلّ المحاولات الروسيّة والعربية لإبعاد نظام دمشق عن الهيمنة الإيرانية. وتكشف بعض هذه التقارير عن مداولات جرت في طهران خلال لقاء الرئيس السوري بشار الأسد مع القيادة الإيرانية في 8 أيار حسمت نهائية واستراتيجية المصير المشترك بين النظامين. وهو ما اعتُبر ردّاً مشتركاً أيضاً على الزيارة التي قام بها الأسد في 18 آذار للإمارات.

يشكو السوريون، وحتى فرقاء الصراع من غير السوريين، غياب سياسة أميركية تجاه الملف السوري منذ إدارة باراك أوباما

يلتقي تقييم الخارج مع تقييم شخصيات معارضة في أنّ النظام في دمشق معنيّ أكثر من طهران بالتحالف مع إيران، ويعتبرها ضمانتهُ الأكثر ثقةً مقارنة بالتحالف مع روسيا. وتذهب هذه الرؤى إلى التسليم بأنّ تكثيف الضربات الإسرائيلية ضدّ أهداف إيرانية في سوريا، حتى لو اتّخذت طابعاً نوعيّاً عطّل مطار دمشق قبل أيام، لا يمكن أن تنجح في وقف “العبور” الإيراني نحو سوريا ما دام يحظى بالحاضنة السياسية واللوجستية والأيديولوجية التي توفّرها له دمشق.

فشل مشروع موسكو

بالمحصّلة يترافق تراجع الانشغال الروسي بالشأن السوري مع فشل موسكو في تسويق مشروعها القديم للتسوية الذي يستند إلى مسألة الاستسلام للأمر الواقع الذي أنتجته آلتها الحربية. ويحوّل اتّساع الهوة بين روسيا والتحالف الأميركي-الأوروبي لمناسبة الحرب في أوكرانيا، سوريا إلى جبهة مواجهة فرعيّة تتبادل داخلها واشنطن وروسيا الرسائل. وفيما مفاصل فيينا تُظهّر مواجهة من نوع آخر مع إيران، فإنّ ذلك “الفراغ” الأميركي المزعوم سيبقى أداة فاعلة يمنع تزحزح خطوط التوازنات.

تقتنص تركيا فرصة نادرة داخل سوريا لتصفية حساباتها مع “قسد” حليف واشنطن. وحين يعلن الطرف الأميركي رفضه للعملية العسكرية التي أعلنتها أنقرة، فإنّ موسكو المتحفّظة على الحراك التركي تتخلّى عن تحفّظها وترسل وزير خارجيّتها سيرغي لافروف ليعلن “تفهّم” روسيا للهواجس التركية.

إقرأ أيضاً: إيران تُجنِّد أطفالاً سوريّين للقتال في اليمن

ومع ذلك فإنّ التناقض الشديد بين مصالح اللاعبين في سوريا لا يدفع واشنطن إلى التخلّي عن فراغها المزعوم. وما دامت طهران تعارض طموحات أنقرة، وما دامت إسرائيل تمتلك غطاء دولياً واسعاً للتعامل مع الأخطار الإيرانية، وما دامت روسيا عاجزةً عن أيّ مناورة سورية وهي عالقة في أوحالها الأوكرانية، فإنّ الـ”لاسياسة” الأميركية ستبقى بوصلة أيّ سياسة دولية تجاه سوريا، ويجب أن تأخذ جيّداً بعين الاعتبار رواية “قيصر” وشهادات من يليه.

* كاتب لبنانيّ مقيم في لندن

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…