هل تنجح تركيا في مواجهة “كابوس” الجوع الدولي؟

تعوّل أنقرة على نتائج زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وحصيلة المحادثات بين البلدين لإنجاز تقدُّم في موضوع تدشين “الممرّ الغذائي الآمن” لتتويج الجهود التي تبذلها منذ أربعة أسابيع، وإعلان الخطة التي أعدّتها بالتنسيق مع أنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة، لنقل آلاف الأطنان من القمح والحبوب والزيوت المكدّسة في عنابر وصوامع السواحل الأوكرانية، إلى دول العالم التي بدأت تواجه أزمة نقص في احتياطاتها قابلة للتحوّل إلى أزمة غذائية وكابوس حقيقي إذا لم يتمّ التعامل معها بجدّية وسرعة. فهل يعطي لافروف تركيا ما تريد أم تتحوّل المساومات إلى مماطلة تؤكّد ما قاله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من أنّ هدف روسيا النهائي هو تحويل هذه الورقة إلى ابتزاز للغرب ليس أكثر؟

بعد الحديث عن “الممرّ الطبّي الآمن” الذي اقترحته تركيا لتسهيل خروج الجرحى والمصابين على جبهات القتال الأوكرانية-الروسية، انتقل الحديث في أنقرة إلى موضوع تفعيل “الممرّ الإنساني الآمن” من أجل تبادل مئات الأسرى بين البلدين. ويأتي اليوم دور خطة “الممرّ الغذائي الآمن”، التي يُعِدّ غوتيريس تفاصيلها بالتنسيق مع الجانب التركي وسط تكتّم شديد. الهدف هنا هو إيجاد حلّ لمأزق يهدِّد بأزمة غذاء عالمية عبر تجهيز ممرّ مائي في البحر الأسود يصل إلى مضيق البوسفور لتسهيل خروج المنتجات الأوكرانية والروسية المحاصَرة أو الممنوعة من المغادرة بعد اشتعال الجبهات قبل 3 أشهر.

حرّكت الحرب في أوكرانيا خطوط الزلازل في أكثر من مكان، وخط الزلازل الغذائي هو أخطرها طبعاً، خصوصاً أنّ هناك من يريد أن يلعب ورقة هذا السلاح ضدّ الملايين من سكان العالم

بوادر التفاؤل التركية والأممية سببها إرسال موسكو وفداً دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً إلى تركيا في مطلع الأسبوع لبحث الكثير من التفاصيل قبل وصول وزير الخارجية الروسي. ويدلّ قدوم لافروف على تحوُّل إيجابي أكبر في المواقف قد يساهم في وضع اللمسات الأخيرة على خطة تسهيل الإفراج عن أكثر من 20 مليون طن من الحبوب والموادّ الغذائية المحاصَرة في أوكرانيا أو المتعثّر إخراجها من روسيا بسبب قرار العقوبات الغربية.

الخطة التي تجري مناقشتها في الداخل التركي اليوم فيها الكثير من التفاصيل التقنية واللوجستية والأمنية، وقد تجيب على الكثير ومن التساؤلات والنقاط العالقة، من المتوقّع أن تعطي الأولويّة لبرنامج تحرّك على الشكل التالي:

– تحرّك الخبراء والتقنيّين الأتراك لمتابعة تفاصيل تجهيز مرفأين أوكرانيَّيْن، على الأقلّ في المرحلة الأولى، يتمّ الاتفاق عليهما بين موسكو وكييف لتسهيل نقل الحبوب.

– انطلاق القوات البحرية التركية في الوقت نفسه للمشاركة في تطهير السواحل الأوكرانية من الألغام الملقاة لعرقلة الهجوم الروسي وإنجاز ذلك خلال أسبوعين.

– تحديد عدد ومهامّ القطع الحربية التركية التي ستساهم في تأمين خروج سفن الشحن باتّجاه المياه الدولية في البحر الأسود حيث ستوجد البحرية الروسية عن بعد من أجل مراقبة حركة السفن التي ستدخل وتغادر الموانىء الأوكرانية بالتنسيق مع القوات التركية منعاً لنقل السلاح إلى أوكرانيا.

– ضمانات روسيّة بعدم مهاجمة أوديسا أو أيّة مرافىء أوكرانية أخرى يتمّ الاتفاق بشأنها طوال عمليات التعبئة والشحن.

– عرض المشاركة التركية في تسهيل فكّ الحصار ورفع العقوبات بشكل جزئي عن الحبوب والقمح والزيوت الروسية تمهيداً لنقلها بحراً إلى الخارج. سيضمّ أسطول النقل التجاري حوالي 70 باخرة، بينها 20 باخرة تركية يتمّ رفع عددها بحسب المتطلّبات.

حرّكت الحرب في أوكرانيا خطوط الزلازل في أكثر من مكان، وخط الزلازل الغذائي هو أخطرها طبعاً، خصوصاً أنّ هناك من يريد أن يلعب ورقة هذا السلاح ضدّ الملايين من سكان العالم ليحقّق أهدافه الاقتصادية والتجارية. لم تعد الحروب كلاسيكية أو تعني المتحاربين فقط كما كانت في السابق. الجميع يدفع الثمن اليوم بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة. فدول بعيدة عن ساحات المعارك عرضة لشظايا الحرب سياسياً وغذائياً واقتصادياً، فقد بدأت معالم الأزمة الغذائية تشتدّ داخل البلدان التي عقدت صفقات بملايين الدولارات مع أوكرانيا وروسيا لشراء منتجاتها من الحبوب والأسمدة والزيوت، لكنّها لم تتسلّمها. أبرز الدول المتضرّرة في حرب مَن يوفّر ربع إنتاج الحبوب في العالم اليوم هي دول الشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا. 120 مليار دولار من مداخيل الحبوب والزيوت والأسمدة تتم إعادة برمجة مسارها، وهو رقم يكفي بحدّ ذاته للتوقّف عند متغيّرات خرائط تقاسم النفوذ الغذائي والزراعي وفوائد هذه الحرب بالنسبة إلى الهند والصين والبرازيل مثلاً.

اتّهم جوزيب بوريل مفوّض السياسات الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي روسيا بافتعال أزمة الحبوب في العالم. هو محقّ عندما نكتشف أنّ أوكرانيا تصدّر لوحدها 12 في المئة من استهلاك القمح، و15 في المئة من الذرة، و50 في المئة من زيوت دوّار الشمس للعالم شهرياً. لكنّ الردّ الروسي عبر نائب وزير الخارجية أندريه رودينكو مهمّ أيضاً. هو يقول إنّ “حلّ المشكلة الغذائية يمرّ عبر مقاربة جماعية، تشمل رفع العقوبات التي فُرضت على الصادرات الروسية والتعاملات المالية”. الطرح الأممي والتركي يتقدّمان بهذا الاتجاه أيضاً في ضوء المواقف والتصريحات المعلَنة حتى الآن.

يقول الناطق باسم الخارجية الأميركية ند برايس إنّ واشنطن تتابع عن قرب تفاصيل زيارة لافروف لتركيا ونتائجها المحتملة ومدى جدّية موسكو في تسهيل حلحلة الأزمة الغذائية في العالم التي تسبّبت بها إثر غزوها لأوكرانيا. لكنّ الإدارة الأميركية تدرك أنّ خياراتها محدودة في عرقلة أيّة تفاهمات تتمّ لأنّ الكثير من الدول والعواصم تدعم نجاح المفاوضات وتسليم آلاف الأطنان من الموادّ الغذائية التي تتزايد الحاجة إليها يوماً بعد آخر. تحرّك السفن المحمّلة بالقمح من “سلّة الخبز” في العالم يعني لتركيا بروز قناعة روسية أوكرانية جديدة تقول إنّه لا جدوى من إطالة عمر الحرب لأنّ ارتداداتها تخدم أطرافاً أخرى يهمّها صبّ الزيت فوق النار وتأجيج الجبهات. وقبول فكرة فتح الأبواب مجدّداً أمام الحوار السياسي والدبلوماسي الذي بدأته أنقرة قبل أشهر من دون الوصول إلى نتائج مشجّعة.

عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باكراً عن تفاؤله باحتمال نجاح الخطة في ضوء الاتصالات التركية-الروسية. لكنّ المسألة ليست بمثل هذه السهولة والبساطة، فهناك أكثر من هدف وعقبة ينبغي تجاوزها والالتفاف عليها:

– فتح طرق الشحن من الموانئ الأوكرانية، وعلى رأسها ميناء أوديسا الأوكراني الاستراتيجي في استقبال السفن وتسهيل خروجها محمّلة بالحبوب.

– إزالة العقبات اللوجستية والأمنية أمام إخراج هذه الموادّ من مستودعاتها ومرافئها وتأمين انتقالها إلى الجهات التي تعاقدت على شرائها.

– تنسيق أممي تركي لإزالة الألغام التي نشرتها أوكرانيا في مياه البحر الأسود بما يضمن سلامة سير سفن الشحن.

– تسهيل وصول التحويلات المالية إلى مستحقّيها، سواء في الجانب الأوكراني أو الروسي، بضمانات أممية.

– تشكيل آليّة مراقبة وتنفيذ تقترح تركيا أن تكون إسطنبول مركزها، وتتولّى مرافقة الناقلات الأوكرانية حتى عبورها مضيق البوسفور باتجاه وجهتها في إيجه والبحر الأبيض المتوسط.

أسئلة كثيرة عالقة سنعرف تفاصيلها، ومنها مسألة تمويل العملية وتحمّل الأعباء والنفقات ودور الأمم المتحدة فيها. هل تكون تركيا بمفردها على خط تقديم الخدمات اللوجستية والأمنية أم تساهم دول أخرى في توفير الحماية والنقل؟ بين الاحتمالات أن تساهم دول محايدة يقبل بها كلا الطرفين الروسي والأوكراني في الخطة، ومن غير المستبعد أن يكون غوتيريس على تواصل مع دول، بينها إسرائيل والإمارات ومصر، لتقديم المساعدة عند الضرورة. الدول الثلاث هي الأقرب إلى طرفَيْ النزاع، وهي التي حافظت على حياديّتها في التعامل مع ملف الأزمة حتى اليوم. إضافة إلى أنّ الثقل الإقليمي لهذه الدول وقدراتها على إنجاح خطة من هذا النوع على خط البحر الأسود والبحر المتوسط ومنطقة الخليج باتجاه أكثر من بقعة جغرافية، يعطيانها فرصة لعب هذا الدور الاستراتيجي الذي ينتظره الملايين من سكان العالم.

تنشر تركيا حاليّاً حسب تقارير أمنيّة فرقاطتين وغوّاصتين و6 قطع بحرية صغيرة تقوم بمهامّ المراقبة والدوريات الروتينية في البحر الأسود. لكنّها جاهزة لرفع العدد ما إن تُقرّ الخطة وتُنجز التفاهمات حولها، كما قيل في أنقرة. هذا يعني أنّ تركيا متمسّكة بدعم الخطة حتى النهاية، وأنّها تتطلّع إلى الإعداد لطاولة حوار رباعي تجمع الروس والأوكرانيين والأتراك إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة والدول التي قد تساهم في إنجاح المشروع.

منحت “الحيادية” التركية في الحرب الروسية الأوكرانية أنقرة فرصة الدخول على خط الوساطة بين طرفَيْ النزاع على الرغم من أنّ جهودها لم تصل إلى النتيحة المرجوّة. تتطلّع القيادات التركية مرّة أخرى إلى نجاح تحرّك جديد على خطّ كييف-موسكو بالتنسيق مع الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس هذه المرّة. هل تعطيها الأطراف المؤثّرة في النزاع ما تريده، خصوصاً أنّ الهدف ذو طابع حياتي وإنساني عالمي؟

إقرأ أيضاً: هل تخلّت أنقرة عن “نبع السلام-2″*؟

أنقرة تريدها خطوة باتجاه إعادة تفعيل الحوار السياسي بدعم أممي هذه المرّة. وتريد أيضاً تسجيل هذا الاختراق الذي قد يعيد القيادات الروسية والأوكرانية إلى طاولة الحوار قبل انعقاد قمّة الناتو التي ستستضيفها العاصمة الإسبانية مدريد في نهاية شهر حزيران الجاري، وهو الأمر الذي سيساعدها في تجاوز مسألة التوسعة الأطلسية بقبول عضوية السويد وفنلندا. لكنّ المشكلة اليوم أنّ كييف بدأت باكراً الاستعداد لسيناريو الاحتمالات السلبية وفشل التحرّك التركي الأممي، وهي تريد منذ الآن محاصرة القرار التركي. فسفير أوكرانيا في تركيا فاسيل بودنا يتّهم روسيا بـ”سرقة” محاصيل حبوب أوكرانية عبر شبه جزيرة القرم، ومحاولة بيعها إلى عدّة دول بينها تركيا على أنّها منتجات روسية، مطالباً أنقرة بالتعاون للكشف عن ممارسات موسكو.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…