المجاهدون الأوكران؟

بعد أكثر من مئة يوم من الحرب، عاد سؤال صحيفة “لوفيغارو” إلى الواجهة من جديد: هل تصبح أوكرانيا أفغانستان جديدة لروسيا؟

يتعلّق هذا التساؤل باحتمالات قيام حرب استنزاف أوكرانية طويلة المدى. لكنّ تساؤلاً آخر يتعلّق باحتمال نشأة جماعات إسلامية متطرّفة على أثر الحرب التي قسّمت العالم.

كتيبة الشيخ منصور

يزيد عدد المسلمين في أوكرانيا على مليون نسمة، ويزيد عددهم في روسيا على عشرين مليوناً. ولقد سمحت الدولتان بانضمام المقاتلين الأجانب إلى صفوفهما.

في عام 2014 بدأت الموجة الأولى للمقاتلين الأجانب. ففي أوكرانيا جاء قرابة 2,000 مقاتل للعمل ضدّ روسيا بعد ضمّ شبه جزيرة القرم. ويرى البعض أنّ متطرّفين إسلاميين كانوا من بين هذه الموجة من المتطوّعين، وهو ما تنفيه أوكرانيا. وقد شهدت الموجة الثانية عام 2022 عدداً لافتاً من المقاتلين الشيشان.

بعد أكثر من مئة يوم من الحرب، عاد سؤال صحيفة “لوفيغارو” إلى الواجهة من جديد: هل تصبح أوكرانيا أفغانستان جديدة لروسيا؟

تقف جمهورية الشيشان الروسية في هذه الحرب إلى جانب موسكو، لكنّ “شيشان الخارج” قد ذهبوا إلى دعم أوكرانيا.

توجد ثلاث مجموعات شيشانية أساسية تقاتل ضدّ روسيا: الأولى تُسمّى “كتيبة الشيخ منصور” نسبة إلى قائد حارب الروس في القوقاز في القرن الثامن عشر، والثانية “كتيبة جوهر دوداييف” نسبة إلى أول رئيس لجمهورية الشيشان حارب روسيا من أجل الانفصال، والثالثة هي “جماعة أحمد زكاييف” نسبة إلى شيشاني يقيم في النرويج، وقد دعا شيشان العالم إلى القتال إلى جانب أوكرانيا.

عودوا إلى منازلكم

بمثل ما انقسم الشيشان، انقسمت المؤسسات الدينية الرسمية بشأن الحرب. فقد دعا مفتي موسكو، وكذلك مفتي جمهورية تتارستان الروسية، ومفتي جمهورية الشيشان الروسية، بالإضافة إلى مفتي جمهورية داغستان الروسية، إلى القتال مع روسيا. وقد تحدّث أحد الجنود المسلمين في الجيش الروسي لصحيفة “واشنطن بوست” قائلاً: “أنا أقاتل مع الجيش الروسي للجهاد ضدّ أوكرانيا والناتو”.

بالمقابل دعا مفتي أوكرانيا، الذي ارتدى الملابس العسكرية، المسلمين في بلاده إلى القتال ضدّ روسيا، كما دعا الجنود المسلمين في الجيش الروسي إلى الانسحاب من القتال، وقال مخاطباً إيّاهم: “عودوا إلى منازلكم، اختلقوا الأعذار وعودوا”. وقد انتشرت صور عديدة لرجال الدين المسلمين في أوكرانيا وهم يقفون بين صفوف القوات الأوكرانية.

هاجمت تنظيمات السلفية الجهادية رجال الدين الإسلامي من الجانبيْن، بعدما قامت بتكفير الجيشيْن. وبدوره أفتى تنظيم داعش بردّة القوات الحكومية الشيشانية التي أرسلها “رمضان قديروف” للقتال مع موسكو، ووصفَ التنظيم الحرب الروسية-الأوكرانية بأنّها الحرب الصليبيّة – الصليبيّة الأولى.

 

إخوان أوكرانيا

تصنِّف روسيا جماعة “الإخوان” على أنّها منظّمة إرهابية، لكنّها تتمتّع بحرّية حركة واسعة في أوكرانيا، وقد كان طبيعياً أن تقف الحركة في أوكرانيا ضدّ روسيا.

في عام 1991 بدأت حركات الإسلام السياسي الاستعداد للعمل، واستثمار الحاجة إلى العودة إلى الدين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وفي عام 1997، وبعد 6 سنوات من الاستقلال، أسّست الجماعة إطاراً شاملاً لعناصرها ومؤسّساتها باسم “اتحاد الرائد”.

يقدِّر باحثون في الإسلام السياسي عدد المنظمات التي انضوتْ تحت “اتحاد الرائد” بـ17 منظمة إخوانية، تنشط في كييف وأوديسا وخاركوف وعدد من المدن الأوكرانية الأخرى. ومن بين هذه المنظمات “جمعيّة الفجر” التي تمثّل الوجود الإخواني الإقليمي في شرق أوروبا.

بعد “اتحاد الرائد” أسّس الإخوان “مجلس مسلمي أوكرانيا” لتصبح المؤسّستان هما الثنائي الإخواني العامل في البلاد. وتقوم هذه التكوينات بتجنيد مسلمي البلاد، واستقطاب الطلاب العرب الدارسين في أوكرانيا، للانضمام إلى صفوف الجماعة.

في شهر شباط عام 2014، ومع إدانة الولايات المتحدة وأوروبا للأحداث في أوكرانيا، أصدرت جماعة الإخوان في مصر بياناً يهاجم ما سمّته “ازدواجية معايير الغرب” الذي هدّد بفرض عقوبات على الحكومة الأوكرانية، ولم يهدّد بفرض عقوبات على الحكومة المصرية!

في شهر أيار 2020 قامت أوكرانيا بتسليم مصر أحد أعضاء الجماعة الهاربين، والمتّهم بقضايا داخل مصر، لكنّ الجماعة سرعان ما استغلّت الغزو الروسي لأوكرانيا لتعزيز موقعها من جديد.

سلالة جديدة

هكذا تتعدّد مسارات الإسلاميّين والحرب، ما بين الانقسام الشيشاني، وانقسام المؤسّسات الإسلامية الرسمية، وعداء الجماعات الإرهابية للجميع.

هنا يتأتّى القلق بشأن ما بعد الحرب، ولا سيّما إذا ما امتدّت لسنوات مقبلة. فالإسلاميون الذين تسلّلوا من بين المتطوّعين، والإسلاميون الشيشان الموالون لأوكرانيا، وجماعة حزب التحرير الإسلامي المعترَف به في أوكرانيا، فضلاً عن جماعة الإخوان التي تحتلّ مساحة كبيرة من الحركة، قد يقودون جميعهم إلى نسخة جديدة من الجماعات الإرهابية.

إقرأ أيضاً: كيف تنتهي الحرب في أوكرانيا؟

تبذل أوكرنيا ومن ورائها أوروبا جهوداً كبيرة لضبط الأمور، ومنع انطلاق موجة من الإرهابيين الجُدد، لكنّ هذه الجهود قد لا تلاقي النجاح إذا ما طالت مدّة الحرب. لقد خرجت القاعدة من حرب أفغانستان، وخرجت داعش من حرب العراق، وقد تخرج نسخة جديدة من حرب أوكرانيا، لنجد أنفسنا إزاء سلالة أوروبية خطيرة هي: “المجاهدون الأوكران”.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…