المجلس سيّدُ نفسه.. وبرّي سيّدُ المجلس

على بركة التجديد ونيّة مجلس نواب جديد بدأت ولايتُه بتاريخ 31/05/2022. انتُخِبَ نبيه مصطفى برّي رئيساً للمجلس للمرّة السابعة على التوالي بأصوات 65 نائباً من أصل 128، أي بأكثرية النصف زائداً واحداً بالتمام والكمال.

لم يكن أحدٌ يتوقّع غير ذلك. فقط كانت أصواتٌ من التغييريين إلى المعارضة مروراً بالمستقلّين والمدنيين، تشدّد على أنّ طرح اسمٍ غير اسم برّي أو الاقتراع بورقة بيضاء هو بحدّ ذاته انتصارٌ لمبدأ تداول السلطة وبداية التحوّل نحو مسار مختلف، ولو لم تكن النتيجة مُرْضِية.

لم تفلح انتفاضة 17 تشرين وما تلاها من كوارث حلّت على لبنان، في زحزحة رسوخ برّي في المقام والمقال اللبناني.

ظلّ مستفيداً من التوزيعة السياسية اللبنانية الجديدة، التي وإن تغيّرت، إلاّ أنّها لم تُفضِ إلى تحوّلات ملموسة حتى تاريخه.

في تاريخ لبنان الحديث، ظلّت حالة استثنائية في المعادلة اللبنانية اسمها نبيه برّي لا تُفسّر بالأعراف والوقائع، دعك من البحث في القانون والدستور

بمعايير “الديمقراطية التوافقية” بين الطوائف اللبنانية أو بموازين القوة الشعبية الشيعية أو بمقياس تماسك الحلف الثنائي بين حزب الله وحركة أمل، كانت كلّ الطرق تؤدّي بالمارّين على طريق السلطة إلى رجل وحيد لمنصب واحد.

وعلى الرغم من أنّ الأصل في الصلاحيّات السياسية والأعراف الممارَسة في مجلس النواب في لبنان أنّها تكاد تنحصر في منصب رئيس المجلس، فقد جرى بعد التجديد لرئاسة برّي، وتبعاً للدستور، الاقتراع لانتخاب نائبٍ لرئيس المجلس وأمينَيْ سرّ وثلاثة مفوّضين، وهكذا كان فتمّت المصادقة.

عادت كلّ المواقع والمناصب إلى القوى التقليدية اللبنانية التي كانت توافقت مسبقاً على توزيع المراكز بما يتناسب وأحجامها وما تقرّره الأعراف السائدة منذ اتفاق الطائف.

لم يستطع التغييريون اختراق المشهد، على الرغم من جهدٍ معتبر لتوحيد الصفوف وتوحيد الصوت.

 

الممرّ الإلزامي

في تاريخ لبنان الحديث، ظلّت حالة استثنائية في المعادلة اللبنانية اسمها نبيه برّي لا تُفسّر بالأعراف والوقائع، دعك من البحث في القانون والدستور.

لقد خاض المحامي وأستاذ القانون كلّ أنواع الحروب مع الأعداء والأخوة، وعقَد كلّ أنواع التسويات والصفقات مع القريب والبعيد، ومارس شتّى مسمّيات الوساطات بين الأضداد، فبقي بقدرة قدير ممرّاً لا عوض عنه للدخول والخروج من وإلى باب السلطة في لبنان.. وما يزال.

لم تفلح انتفاضة 17 تشرين وما تلاها من كوارث حلّت على لبنان، في زحزحة رسوخ برّي في المقام والمقال اللبناني

في معادلات الخارج المتّصلة بلبنان، صار برّي بعد اتفاق الطائف عام 1990 وتولّيه رئاسة مجلس النواب بعدها بسنتين، إثر عبور سريع في مناصب وزارية لم تخلُ منها وزارة العدل، صار معبراً شرعيّاً وإلزاميّاً لكلّ حلٍّ ممكن تحت نار الأزمات والخضّات المستنسَخة في الوطن الصغير.

ومع مرور الوقت واستفحال الملمّات، سيكرّس وريثُ الإمام المؤسّس لحركة أمل موسى الصدر، شخصَه ونفسه قائداً لأفواج المقاومة اللبنانية كحركةٍ للأحرار والمحرومين زمن الحرب الأهلية اللبنانية.

بعدها سيضحي تقاطعاً على مفترقات الطرق بين كلّ المتصارعين بلا هوادة على لبنان في الداخل والخارج، شرقاً وغرباً.

في المسألة الشرقية، لم يقبل “أبو مصطفى” التخلّي عن عروبته لقاء أيّ ثمن، فحاز وسام العروبة بمرتبة عالية ومن كلّ العرب بلا استثناء، لكنّه في الوقت نفسه ظلّ طرفاً موثوقاً لدى الجمهورية الإسلامية في إيران منذ التقاء سوريا حافظ الأسد مع ثورة آية الله الخميني في إيران، في محور مصنّف عربيّاً بأنّه من “الخوارج” على العرب العاربة.

غرباً تحوّل برّي، مع كونه على رأس حركة أمل مقاوماً لا يلين، إلى الرجل الذي تمرّ عبره ومن خلاله كلُّ مواكب السياسة والدبلوماسية من الرؤساء والأمناء حتى الوزراء والسفراء، فيما لا مفرّ لكلّ مهتمّ بالشأن اللبناني من أن يحطّ الرِّحال في مقرّه الرئاسي في عين التينة.

لم يُستثنَ من ذلك أميركيٌّ أو فرنسيٌّ أو أمميٌّ في كلّ جهة أو هيئة أو لجنة شُكِّلت لمواكبة أحداث لبنان.

 

“مُدَوزِن” الحلول

هكذا رسّخ دارس الحقوق المتمرّس ورجل الخطابة المفوّه نفسه مرجعاً في “دوزنة” الحلول على الطريقة اللبنانية، حيث “لا غالب ولا مغلوب” إلّا بحسب ميزان القوى وقوّة أوامر الواقع.

يسير برّي بحسب منطق الأشياء وينحني مع اشتداد العواصف لقوى الطبيعة السياسية التي يعرف أصول التعامل معها في مساراتها المتعرّجة.

يعرف طبائع التوازنات اللبنانية، فيتحرّك بحذر دائم على حبلٍ رفيع ومشدود، متعرّج لا يصل به الزمان إلى مكان في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. لكنّه يُخضِع نفسَه في كلّ ذلك لقواعد صارمة بات يحفظها عن ظهر قلب في السلم والحرب.

في حساباته جملةُ اعتبارات لا يبوح بأسرارها، ومصارحات وتجلّيات يعرف أوان إعلانها والبوح بها تبعاً للظروف وبناءً على المقتضيات.

يظلّ حذراً فلا يرفّ له جفن ساعة أيّ استحقاق.

أمس قضى مهمّته كما رسمها وتراءت له في صورة أسقطها على واقع الحال، راضياً باختلاف بعض التفاصيل ساعة التنفيذ، على ألّا تخرج الفلتات وزلّات اللسان من هذا النائب الحديث أو ذاك القديم عن إطار الصورة الأوسع للمشهد اللبناني المتداعي.

إقرأ أيضاً: نواب الثورة “شاغبوا”… ونواب النظام “حَكَموا”

لطالما استعان الرجل، الذي يستهويه الشعر والأدب عوضاً عن القانون، على مدار سنين طوال، بترداد أنّه في نظام برلماني ديمقراطي وأنّ مجلس النوّاب سيّدُ نفسه، بمعنى أنْ لا أحدَ له أن يُملي على ممثّلي الشعب أيّ إملاء أو يُقرّر عنهم أيّ قرار، سواء أكان رئيساً للجمهورية أم نافذاً فيها بقوّة الخارج أم متعدّدَ الأدوار والرئاسات بفعل ترتيبات الداخل.

تبيّن أمس أيضاً أنّ برّي يعود قائد أوركسترا قديماً لفرقة موسيقية قديمة جديدة، لا تملك العزفَ على أيِّ آلة، بلا توجيهات المايسترو إيّاه، متسيّداً السادةَ النوّاب، أسياد أنفسهم.

 

*إعلامي لبناني

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…