التغيير: ماذا سيفعل في “آليات” الحكم؟

ما إن انتهى “العرس الديمقراطي” حتّى عادت قوى السلطة إلى ممارسة ألاعيبها واستخدام أدوات الإلهاء والتعمية على الواقع المرّ. والأدهى أنّ ذكاء السلطة يقف عند حدود المناورة واقتناص الفرص من دون القدرة أو الرغبة في اجتراح أيّ حلول للأزمات الكارثية التي تحلّ بالشعب اللبناني، وهو ما يجعل منه ذكاءً سلبياً، إذ لا يسعى إلى “التغيير”، بل هدفه الوحيد ضمان الاستمرارية السياسيّة لهذه القوى بمعزل عن كلّ التداعيات المفجعة للانهيار.

هذه إحدى خلاصات الانتخابات الرئيسية التي وإن أظهرت تراجع التأييد الشعبي لبعض قوى السلطة الرئيسيين، وفي مقدَّمهم التيار الوطني الحر، إلا أنّها لم تحُل دون استمراريّتهم السياسيّة وبالحجم الذي يخوّلهم مواصلة لعبتهم المعرقلة للنظام السياسي وللحياة اللبنانية، عبر التعطيل الممنهج وتحويل العملية السياسيّة إلى منصّة للتنصّل من المسؤولية وتصفية الحسابات، بل للثأر والانتقام السياسي كما يحصل بين التيار العوني وحركة أمل في ما يخصّ انتخاب رئيس البرلمان.

خطاب الثورة ونوّابها يجنح إلى استبعاد الشارع من اللعبة السياسيّة تماماً كما تشتهي السلطة

مدعاة الكلام عن ذكاء السلطة هو إقدامها على إزالة سواتر الإسمنت والحديد من الطرق المؤدّية إلى ساحة النجمة إيحاءً منها بأنّنا أمام مرحلة جديدة عنوانها انتقال الثورة من الشارع إلى البرلمان كما قال وزير الداخلية. لكنّ ما يدور في عقل السلطة ليس أنّ الثورة أصبحت داخل البرلمان بل أنّها أصبحت خارج المعادلة بوصول نوّابها إلى البرلمان، في وقت ما تزال كلّ أسبابها موجودة، بل أصبحت أكثر حضوراً وإلحاحاً.

 

تواطؤ “الثورة”؟

هذه المصالحة المزيّفة التي حاولت السلطة أن تعقدها مع الثورة في محاولة لامتصاصها والالتفاف عليها نهائيّاً وجدت فيها قوى الثورة ونوّابها انتصاراً لهم باعتبار أنّهم نجحوا في إزالة “جدار العار” الفاصل بين البرلمان والناس. وإذا كانت إزالة هذا الجدار لم تتمّ لولا فوز هذا العدد من نواب الثورة في الانتخابات، إلا أنّ ذلك كلّه لا يحول دون السؤال عن أسباب إقدام السلطة على إزالة هذا الجدار؟ فإذا كانت السلطة ليست في صدد تقديم هدايا مجّانية لقوى الثورة، لكنّ قيامها بفتح ساحة النجمة أمام الناس هو بمنزلة إعلان من قبلها أنّها ما عادت تخشى الثورة.

الأهمّ أنّ سقوط الجدار يُراد منه الإيحاء بأنّنا على أبواب مرحلة جديدة أكثر تفاؤلاً من سابقاتها، بينما كلّ المؤشّرات السياسية والاقتصادية تدلّ على أنّ اللبنانيين مقبلون على مرحلة جهنّمية جديدة، في ضوء التعقيدات الإضافية في الخريطة البرلمانية التي انعكست ترجماتها الأوّلية في تأخّر انتخابات رئاسة المجلس، وعلى وقع الانهيار المتسارع في قيمة الليرة والارتفاعات القياسية في أسعار المحروقات والسلع بما في ذلك الأدوية، هذا إن وجدت.

لذلك يمكن اعتبار ما حصل تواطؤاً بين السلطة والثورة على تقاسم الانتصارات أو المكاسب في لحظة استئناف الانهيار، خصوصاً أنّ خطاب الثورة ونوّابها يجنح إلى استبعاد الشارع من اللعبة السياسيّة تماماً كما تشتهي السلطة، في وقت أنّ إبقاء ورقة الشارع على الطاولة هو نقطة القوّة الرئيسية بيد النوّاب التغييريين في المرحلة المقبلة، ولا سيّما أنّ اللعبة داخل المؤسسات مقبلة على انسدادات أعمق وأخطر من السابق.

مدعاة الكلام عن ذكاء السلطة هو إقدامها على إزالة سواتر الإسمنت والحديد من الطرق المؤدّية إلى ساحة النجمة إيحاءً منها بأنّنا أمام مرحلة جديدة عنوانها انتقال الثورة من الشارع إلى البرلمان


بين انسدادين

لكنّ المعضلة الكبرى تتمثّل في أنّ الانسداد داخل المؤسسات ستقابله حتماً انسدادات في الشارع في ظلّ موازين القوى الحالية واستنفار حزب الله الدائم لإجهاض أيّ حركة في الشارع يمكن أن تفرض أولويّات جديدة على اللعبة السياسية. هذا مع الأخذ في الاعتبار أنّ قوى التغيير ما عادت تمتلك أدوات استنهاض الشارع الذي شهد تحوّلات كبيرة في ضوء تفاقم الأزمة، وهو ما يزيد من احتمالات تحوّله إلى شارع فوضوي، بمعنى أنّه يصعب تثمير حركته سياسياً داخل المؤسسات من خلال النوّاب التغييريين.

السؤال المطروح على هؤلاء النوّاب الجدد وقد أصبحوا جزءاً من السلطة، هو كيف سيتموضعون بين رفض الآليّات السياسية للقوى التقليدية لإنتاج السلطة، وبين رفض أن يكونوا شركاء في التعطيل داخل المؤسسات بحجّة محاذرة الانخراط في اللعبة السياسيّة ما دامت قوى السلطة لا تزال قادرة على وضع قواعدها الرئيسية؟

الإجابات الغامضة على هذا السؤال تدلّ على أنّ الاستعصاءات أمام تغيير قواعد العملية السياسيّة لا تزال كبيرة، وإن كان انتخاب ما بين 13 و16 نائباً تغييرياً في البرلمان الجديد قد فتح اللعبة السياسية بعدما كانت مقفلة بإحكام. وهو ما سيلقى ترجماته الأوّليّة على مستوى الخطاب السياسي للقوى التقليدية التي ستجد نفسها مضطرّة إلى ادخال تعديلات على قاموسها السياسي بالنظر إلى تبدّل أولويّات الناس بفعل الانهيار، وإلى “هيمنة” الخطاب التغييري، لكنّ الأزمة الرئيسية ليست على مستوى الخطاب وإنمّا على مستوى الممارسة السياسيّة والانسدادات الخطيرة داخل النظام السياسي.

 

بين باريس وواشنطن

بيد أنّ الاهتمام بقراءة المشهد الداخلي الجديد لا يُغني أبداً عن رصد التطوّرات الإقليمية التي لها انعكاسات حتميّة على الوضع اللبناني، ولا سيّما أنّ التغيير في اللعبة السياسية لم يصل إلى حدود التأثير النوعيّ في تلك الانعكاسات. فبين التقدّم في وتيرة التهدئة بين السعودية وإيران، وبين التقدّم في وتيرة التصعيد بين الأخيرة وإسرائيل، وبين التحوّل الإيجابي في وتيرة العلاقات السعودية الأميركية في ضوء تعثّرات مفاوضات فيينا وتبعات الحرب في أوكرانيا، سيكون لكلّ تلك المسارات تأثير مباشر على الواقع اللبناني. خصوصاً في ظلّ الخشية من أن يتحوّل الجنوب ساحة ساخنة بين طهران وتل أبيب بوصفه ميداناً محتملاً للردّ الإيراني على اغتيال العقيد في الحرس الثوري صيّاد خدايي. وهو ما يطرح أسئلة عن تصرّف حزب الله، الذي ما يزال القوّة الرئيسية في الداخل اللبناني في المرحلة المقبلة.

إقرأ أيضاً: التغييريّون: “لا” مقاطعة.. و”لا” لبرّي و”لا” لميقاتي

حتّى الآن يبدو أنّ الحزب في صدد استيعاب الخسارة البرلمانية ومحاولة تدويرها، لذلك يبعث برسائل متضاربة تغلب عليها لغة التهدئة. لكنّ الخشية أن تدفع التطوّرات الداخلية والإقليمية الحزب إلى التشدّد أكثر في الداخل اللبناني لمنع تحوّل خسارته البرلمانية ضعفاً في قدرته على المناورة وفرض الأولويّات السياسية في مرحلة مصيرية في لبنان والمنطقة.

هنا يفترض طرح سؤال عن حدود الاتفاق بين حزب الله والفرنسيّين، الذي سمح بإجراء الانتخابات، وعن حدود قدرة باريس على إقناع الأميركيين والسعوديين بمقاربتها للوضع اللبناني.

[VIDEO]

 

إقرأ أيضاً

هل يزور البخاري فرنجية قريباً؟

يلتقي سفراء اللجنة الخماسية الرئيس نبيه برّي مجدّداً بداية الأسبوع المقبل لوضعه في حصيلة اللقاءات مع القوى السياسية. بعد ذلك، لا “برمة” جديدة لممثّلي واشنطن…

لقاءات الخماسية: بحث عن رئيس.. في كومة قشّ الخصومات

عادت اللجنة الخماسية إلى الساحة اللبنانية، لكنّ عودتها كانت قد سبقتها اجتماعات في واشنطن بين الأميركيين والفرنسيين. وعلى أساس توزيع الأدوار والتنسيق في معالجة الملفّات…

الكويت بين “هارفرد” و”إيلينوي”… الصِّدام الحتميّ

يقول التاريخ الكويتي إنّ رئيس الوزراء الذي يذهب لا يعود. أي أنّه يرأس حكومات متتالية ثمّ يمضي من دون أن يأتي مرّة جديدة على رأس…

“سابقة موريس سليم”: الطعن بتعيين رئيس الأركان!

 سجّل وزير الدفاع موريس سليم سابقة لم تعرفها حكومات ما قبل الطائف ولا بعده من خلال الطعن أمام مجلس شورى الدولة بقرار تعيين رئيس الأركان…