خطّة الحكومة تضحّي بالمودعين: العوض بـ”سلامة”

اندلعت الحرب بين حكومة تصريف الأعمال والبنوك، وكلٌّ منهما يريد أن يكسب المودعين إلى جانبه.

تزعم جمعيّة البنوك أنّ “خطّة التعافي” تؤدّي إلى شطب الودائع، والحكومة تردّ بلسان نائب رئيسها سعادة الشامي، بأنّها “تحافظ على نحو 90% من أموال المودعين”، وتتّهم البنوك بالاستثمار في “حقوق المودعين المشروعة”.

بالأرقام والوقائع، لم يقُل بيان الشامي الحقّ حين زعم أنّ الخطة تحافظ على 90% من أموال المودعين التي يبلغ رصيدها الإجمالي اليوم مئة مليار دولار (لا يُعرف توزيعها بين قديم وطازج). لكنّه ربّما قصد أنّ الخطّة تضمن أموال 90% في المئة من المودعين، والفارق كبير بين التعبيرين. إذ إنّ العشرة في المئة الأعلى في أعلى الهرم ستتعرّض لهيركات ثقيل جدّاً، سيتجاوز في كثير من الحالات 90%.

الفكرة المخادعة التي يقوم عليها شطب ديون الدولة وإلغاء التزامات مصرف لبنان هي إيهام الرأي العام بأنّ المال العامّ يتخلّص من ديون للبنوك الشريرة

فالخطّة التي أقرّتها الحكومة في آخر جلساتها تحت اسم “استراتيجية النهوض بالقطاع المالي”، تضمن فقط أوّل مئة ألف دولار من الوديعة، فيما تحوّل ما تبقى إلى واحد من خيارين:

– إمّا أن تتحوّل إلى أسهم في البنك، بقيمة لا تشكل سوى نسبة ضئيلة جدّاً من قيمة الوديعة.

– وإمّا أن تتحوّل من الدولار إلى الليرة بسعر صرف غير محدّد حتى الآن، لكنّه بالتأكيد لن يكون سعر منصّة صيرفة.

النقطة المحورية التي تدور حولها خطة الحكومة هي شطب التزامات مصرف لبنان تجاه البنوك. تبدأ الخطّة باعتراف مفتاحيّ بأنّ “الخسائر الضخمة التي تكبّدها مصرف لبنان هي نتيجة قيامه بعمليات ماليّة هدفت إلى جانب تدفّقات رأس المال للحفاظ على سعر الصرف المبالغ في قيمته، ولتمويل العجز في الموازنة”.

تضيف في الفقرة التالية بالبنط الأسود العريض النصّ التالي: “يجب علينا الاعتراف بالخسائر بهدف التخلّص من عنصر الشكّ الذي يحوم حول الاقتصاد”.

 

ثمّ ماذا بعد الاعتراف بالخسائر؟

لا معالجة ولا إعادة هيكلة للالتزامات، بل إلغاء استبدادي لالتزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف.

لنعد إلى القصّة منذ بدايتها. بدأ الأمر بعجز كبير في الميزانية العامّة، كانت الدولة تموّله من الاقتراض الخارجي والداخلي، مستفيدة من تدفّق أموال المغتربين إلى البنوك اللبنانية. وعندما بدأ هذا التدفّق يضعف اعتباراً من 2011، خصوصاً في ظلّ الحرب السورية، أحجمت البنوك عن الاكتتاب في سندات الخزينة الدولارية (اليوروبوندز)، فتدخّل مصرف لبنان ليرتكب الجناية الثلاثيّة:

1- موَّل الدولة خلافاً لقانون النقد والتسليف والحدّ الأدنى من الحصافة الماليّة والأخلاقية.

2- تكبّد خسائر هائلة نتيجة الفوائد الجنونية التي دفعها على الودائع بالعملات الأجنبية، مورِّطاً المودعين بسلسلة “بونزي” وهميّة.

3- بدّد الاحتياطيات، وهي بمعظمها أموال المودعين، لتثبيت سعر الصرف بتكلفة باهظة.

وخلافاً لكلّ ما يُقال من أنّ المشكلة الأمّ في لبنان تكمن في عجز الموازنة، اعترفت الحكومة أخيراً بأنّ المصيبة الكبرى تكمن في مصرف لبنان وليس في أيّ مكان آخر، وذلك ببساطة لأنّ الالتزامات بالعملة الأجنبية التي راكمها في ميزانيّته تفوق ضعف ديون الدولة بالعملة الأجنبية.

 

خسارة ستدخل التاريخ

ستدخل قصة إفلاس مصرف لبنان في التاريخ المالي العالمي كأوّل تعثّر بهذا الحجم لأيّ بنك مركزي، مع وصول خسائره إلى 60 مليار دولار، أي أكثر من 300% من الناتج المحلّي الإجمالي وفق التقديرات الأوّلية المتحفّظة.

يمكن البحث لأيّام في أرشيف صندوق النقد الدولي من دون إيجاد حالة واحدة مماثلة في تاريخ تعثّرات الدول التي عالجها منذ إنشائه.

تشكّل ودائع البنوك لدى مصرف لبنان اليوم، على الورق، نحو 64% من موجودات البنوك، مقابل 24% لمجمل تسليفات البنوك للقطاعين العام والخاص، بالليرة والدولار! ومع ذلك لم تنظر وكالات التصنيف إلى مخاطر توظيفات البنوك لدى مصرف لبنان كمخاطر شبيهة بمخاطر الديون السيادية. ربّما لأنّها لم تفهم بالقدر الكافي السلسلة الوهميّة التي ابتكرها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو ربما لأنّها لم تتعامل مع أيّ مثيل لها من قبل، بدليل أنّك لا تقع في أيّ من تقارير تلك الوكالات قبل عام 2019 على جملة واحدة تتحدّث عن مخاطر تعثّر مصرف لبنان في سداد التزاماته بالعملة الأجنبية. بل كانت كلّ تحذيراتها تتركّز على وضع الماليّة العامّة. والأغرب أنّ العديد من التقارير كانت تشير إلى احتياطيات مصرف لبنان كعنصر قوّة، غافلة عن المركز الصافي السلبي للاحتياطيات!

كان الافتراض النظري أنّ الدولة يمكن أن تتعثّر، لكن ليس مصرف لبنان. فما يُدرَّس في الكتب والجامعات أنّ البنوك المركزية لا تتعثّر، لأنّ لديها السلطة السيادية لإصدار النقد(Seigniorage) ، أي لأنّها وحدها من دون سواها تستطيع أن تطبع العملة. ولهذا السبب لا تُصدر وكالات التصنيف العالمية تصنيفات للبنوك المركزية مثل تلك التي تصدرها للحكومات.

لكن لم يخطر بخُلد مَن اخترع البنوك المركزية أنّ حاكماً اسمه رياض سلامة سيأتي في القرن الواحد والعشرين ليراكم مركزاً صافياً سلبيّاً للموجودات بالعملات الأجنبية يعادل ثلاثة أضعاف حجم اقتصاد بلده!

ولأنّها سابقة لا مثيل لها في التاريخ الماليّ العالمي، ليس بإمكان الدولة اللبنانية أن تتنكّر للجريمة التي اقترفها مصرف لبنان. أقلّه لأنّ قانون النقد والتسليف واضح وضوح الشمس في إلزام الدولة بإعادة رسملة مصرفها المركزي وتحمّل تبعات تهوّره. لكنّ الحكومة ذاهبة في اتّجاه آخر، إذ اختارت في خطّتها أقصر الطرق، وقرّرت أنّ حلّ المشكلة يكون بإلغاء “جزء كبير” من التزامات مصرف لبنان، ووضعت سقفاً لمساهمة الدولة في إعادة الرسملة لا يتجاوز إصدار سندات سيادية قدرها 2.5 مليار دولار، على أن يتمّ إلغاء ما تبقّى من الخسائر السلبية في رأسمال مصرف لبنان تدريجياً على مدى خمس سنوات.

 

“خداع” مصرف لبنان

الفكرة المخادعة التي يقوم عليها شطب ديون الدولة وإلغاء التزامات مصرف لبنان هي إيهام الرأي العام بأنّ المال العامّ يتخلّص من ديون للبنوك الشريرة، فيما الحقيقة الواضحة أنّ المودعين سيتحمّلون أكثر من 90% من تبعات هذا الشطب، ببساطة لأنّ الأموال الخاصّة لأصحاب المصارف لا تشكّل أكثر من 8.8% من موجودات القطاع، بمعنى أنّه لو تمّت مصادرة ملكيّات أصحاب البنوك بالكامل فلن يوفّر ذلك، نظريّاً على الورق، أكثر من 15.2 مليار دولار، والرقم في الحقيقة أقلّ من ذلك بكثير، لأنّ قيمة الأموال الخاصة المعلنة منفوخة بسعر الصرف الرسمي، بل هي منافية لأبسط قواعد معايير المحاسبة الدولية IFRS ومعايير بازل 3 الخاصة بالرقابة على البنوك.

في المقابل، تنطلق جمعية المصارف من موقع أسوأ في رفضها خطّة الحكومة. فكلّ ما يزعج أصحاب البنوك أنّ عملية الـ bail-in التي تنصّ عليها الخطة ستفضي إلى تملّك المودعين (مع الدائنين) لأغلبيّة أسهم المصارف (القيمة الدفترية لهذه الأسهم لن تشكّل 5% من قيمة الودائع)، فيما تنخفض حصّة المساهمين الحاليّين إلى 20%. ويزعجهم أن يُطلب إليهم ضخّ أموال جديدة لإنقاذ مصارفهم.

يريد أصحاب المصارف أن تلتزم الدولة بسداد الجزء الأكبر من ديونها ومن التزامات مصرف لبنان، لا لإعادة أموال المودعين كما يزعمون، بل ليحتفظوا بملكيّاتهم في البنوك. وهذا ينافي قاعدة تراتبيّة المطالبات عند معالجة الخسائر. فمن يتحمّل الخسائر أوّلاً هو المساهم، ثمّ إذا نفدت حقوقه يؤخذ من حاملي السندات، فإذا نفدت حقوقهم يأتي دور المودعين.

إقرأ أيضاً: ملخّص “خطّة التعافي”: قضم ودائع وتفليس مصارف وزيادة ضرائب

هذه التراتبية تنقضها خطة الحكومة أيضاً، لأنّها تنصّ على “الخصم” من أموال المودعين مع الحفاظ على ثلاثة مليارات دولار من حقوق المساهمين. وما تريده البنوك هو نقض أكبر لهذه التراتبية، بحيث تتوزّع الأثمان بين الدولة والمودعين، ويخرج منها المساهمون في البنوك بالحدّ الأدنى من الضرر.

بين الدولة والبنوك والمودعين شدّ حبال. البنوك لديها ما يكفي من النفوذ لتعطيل أيّ حلّ يأتي على حسابها، والدولة تملك قلماً تشطب به ما تشاء من التزامات البنك المركزي. أمّا المودعون فهم الحلقة الأضعف.

إقرأ أيضاً

لماذا يرتفع سعر الذهب عالميّاً… وهل هو بديل مصارف لبنان؟

على الرغم من الانخفاض الذي شهدته أسعار الذهب في اليومين الماضيين، إلّا أنّ المؤشّرات المدعومة بتوقّعات الخبراء تفيد بأنّ هذا الانخفاض هو مجرّد “تصحيح مؤقّت”….

الانتظار والمماطلة: نعمة الطبقة الحاكمة ونقمة المواطنّ!

محطّات عدّة مرّت على لبنان، ولطالما عاكست الظروف التي واكبت هذه المحطّات مصلحة المواطن، وساهمت في إبقاء الأداء المشين لـ”الطبقة الحاكمة” على ما هو عليه….

السلطة V/S المصارف: الأزمة بحاجة لـ”عقل محايد” يحسم خلافاً

يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا…

مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ

كثرت في هذه الأيام الرسائل الموجّهة إلى صندوق النقد الدولي من قبل جهات عديدة من المجتمع اللبناني في محاولة لإرشاده إلى كيفية مقاربة حلّ “للمصيبة…