“صديقي جبران”… إسأل روحك

أتابع خلال شهر رمضان نشرة أخبار ما بعد منتصف الليل، وذلك نتيجة تزامن موعد الإفطار مع موعد نشرة المساء.

أسمعها بهدوء لأنّ زحمة المنزل تكون قد انتهت، وكلٌّ من جاراتنا “الكراكيب” قد ذهبت في حال سبيلها. أمّا أمّ زهير فتكون هي الأخرى قد خَلَت إلى شياطينها وخلدت إلى فراشها.

مساء يوم السبت، شغّلت التلفزيون وجلست أنتظر النشرة، فأخذتني سِنَة لهنيهات بعد “ضرب” الكلّاج والقطايف وشرب السوس. بدأت النشرة وأنا بين صحوٍ وتسطيل، أشاهد بُرهة وأسمع بُرهة، لكنّني أُصبت بالصدمة والذهول وطار النوم من عينيّ حين سمعت وزير الخارجية الأسبق (مدري الحالي) جبران باسيل، يطلق تصريحاً من بلدة رحبة العكّارية التي ساءت له مستقرّاً ومقاماً، في حضرة ثُلّة من العونيين وطائفة من الكراسي البلاستيكية الفارغة.

كان باسيل يوحي إلى الحاضرين زخرف القول غروراً، ويطرح جملة من الأسئلة الخنفشاريّة كمن جاء شيئاً فَرِيّاً. أسئلة من صنف: “كيف نجري انتخابات في بلدٍ وبتكافؤ للفرص إذا لم يكن بإمكاننا زيارة منطقة كعكّار؟ كيف بإمكاننا الوصول وهناك قطع طرقات وضرب حجارة ومسلّحون؟ كيف بإمكان الناس الوصول إلى صناديق الاقتراع إذا لم نؤمّن لهم الأمان؟”. قلت في سرّي والنوم يأخذني: تالله لو سمع مسيلمة هذا الكلام لخرّ صَعِقاً.

أطفأت التلفزيون وفي قلبي حسرة: لم تتسنَّ لي مشاركة أهل عكّار البهجة في قطع الطريق على باسيل لمنعه من الوصول إلى رحبة، لكنّني شاركتهم الأجر

بدا باسيل مبروماً منفوخاً، يشبه جرّة الغاز التي تطلبها أمّ زهير من “أبو غسان” الدكّانجي مطلع كلّ شهر. ظننت أنّه “ضارب” صحنَ فول لدى مطعم عكرا في طرابلس قبل التوجّه إلى عكار (تخصّص سماحة الأمين العامّ الشيخ أحمد الحريري) أو شارب بضعة أكواب من الليموناضة البترونيّة قبل التوجّه إلى عكار، لكن تبيّن أنّ وزير السلطة صهر رئيس الجمهورية القابض على قرارها، وحليف أعتى ميليشيا مسلّحة في المنطقة، خائف!

نعم، باسيل خائف، ولهذا وضع درعاً واقياً من الرصاص الطائش والمطّاطي والخلّبيّ. خائف لأنّه لا رسول لكسرى بيننا اليوم ليقول له: “عدلت فأمنت فنمت يا جبران” (أين أنت من عمر؟)، على الرغم من أنّه حليف الفرس الساسانيّين!

حاول باسيل البحث عن درع من نوع آخر. درع لا تخترقه الشتائم ولا السباب، ففشل. سأل معارفه في الدول الغربية إن كانت آخر صيحات التكنولوجيا قد وصلت إلى اختراع كهذا، ولم يفلح. فاختار أن يتلطّى من غضب الناس وسخطهم واشمئزازهم، خلف خِرقة من القماش المصنوعة من مادة الـTeflon، ويُؤازَر بأرتال من سيارات الـHumvee المدرّعة للجيش اللبناني، حتى يزور منطقة عكّارية ليطلب من أهلها وناخبيها التصويت له ولحزبه… ويا للمفارقة!

أرتال من آليّات الجيش اللبناني، التي لم نرَها ولم نسمع بها يوم اقتحم مسلّحون “مجهولون/معلومون” في بعلبك خيمة المرشّح عباس الجوهري، وقالوا للحاضرين باللغة البعلبكيّة: “يلا ع البايت لشوووف”.

في ذلك اليوم لم نسمع باسيليو يحدّثنا عن تكافؤ الفرص ولا عن قدرة المقترعين على الوصول إلى الصناديق. أطبق عليه صمت القبور، مثلما أطبق على حلفائه الذين تجتهد آلتهم الدينية في معايرة الناس وتصنيفها بين فاسق ولابسٍ للمايوه ومتعاطٍ للمخدّرات، وكأنّ حبّات الرمّان والبنّ والليمون والبرتقال والأفندي المحشوّة بحبوب الكبتاغون، كانت من طبخ وإعداد عمّتي سميرة.

كلّ هذا لم يرَه جبران. ولم يسأل عنه. دار الأذن الطرشا، ويسألنا اليوم أين وأين وأين؟ وكأنّه لم يسمع يوماً ما قالت أمّ كلثوم: إسأل روحك.

أطفأت التلفزيون وفي قلبي حسرة: لم تتسنَّ لي مشاركة أهل عكّار البهجة في قطع الطريق على جبران باسيل لمنعه من الوصول إلى رحبة، لكنّني شاركتهم الأجر.

إقرأ أيضاً: بيروت بدها… هايلايت؟

استفاقت أمّ زهير على صوتي يصدع في البيت سخطاً وكلاماً “من الزنّار وبالنازل”، فسألتني: على شو كل هيدا الصريخ يا فاحش؟

فقلت لها: تعي اسمعي شو عم يقول باسيل.

فردّت: إيه خفّ خفّ الناس نايمة. بعدين شو نسيت هيدا “صديقي جبران”.

… ثمّ نال “شيخُها” قسطاً من السخط نفسه على ما بلانا ورحل.

قال صديقي جبران قال!

 

*هذا المقال من نسج خيال الكاتب

 

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…