أربع قصص عن رفيق الحريري

هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية.

“أساس” ينشر اليوم وغداً مجموعة مقالات ومقابلات في محاولة لسرد بعضٍ سيرته التي نتعلّم منها جميعاً.

في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري نستذكر أربع قصص تروي علاقته بلبنان، وببيروت خاصة.

القصة الأولى تدور أحداثها قبل سنوات من عودته إلى بيروت واختياره رئيساً للحكومة. وتدور وقائع القصة على النحو التالي:

اتّصل بي الشيخ رفيق هاتفياً من الرياض، وطلب منّي اختيار مصوّر محترف للعمل على مشروع تصوير وسط بيروت. كلّ شارع. وكلّ بناية.

كانت المنطقة مدمّرة. وكانت تقيم فيها كلاب مفترسة اعتاشت طويلاً على الجثث حتى نفدت. وبعد ذلك بدأت تغزو أحياء المدينة ليلاً.

سألته: أيّ شارع من بيروت أو أيّ مبنى؟

قال: كلّ الشوارع، وكلّ المباني.

وسألته: ما الهدف حتى أوجِّه المصوّر؟

قال: الدمار في بيروت سوف يصبح في ذمّة التاريخ. أريد أن أوثّق الواقع الحالي لبناء أو لإعادة بناء واقع جديد.

من يتذكّر الصورة التي كانت عليها بيروت بعد توقّف التقاتل الداخلي يدرك عدم واقعيّة الطلب، ويدرك واقعيّة الأسئلة. كانت أحلام البناء والتعمير أقوى من واقعيّة الأسئلة. وكان الشيخ رفيق يحلم، لكنّه كان يعرف كيف يحوّل حلمه إلى حقيقة.

كانت للحريري تطلّعات لا يمكن تحقيقها عن بُعد: إكمال بناء لبنان بشراً وحجراً، وإعادته إلى خريطة المنطقة بتكوينه المميّز وبرسالته المميّزة. وهكذا وصل إلى الفاتيكان، وكان على رأسه البابا يوحنا بولس الثاني

القصة الثانية تبدأ بعدما قرّر رفيق الحريري العودة إلى بيروت للتفرّغ للعمل العامّ. ولكن قبل اختياره رئيساً، أنشأ مؤسسة الحريري لتقديم منح للطلاب تساعدهم على إنجاز دراساتهم الجامعية في لبنان، وفي أوروبا وكندا والولايات المتحدة. تدفّق طلاب من كلّ لبنان ومن كلّ الطوائف والمذاهب حتى بدا لنا أنّنا سوف نضطرّ إلى الاعتذار للكثيرين منهم، الأمر الذي قد يعرّضهم لخيبات أمل مريرة.

عرضنا عليه الأمر وسألناه: ما هو سقف العدد الذي نلتزم به.. أو سقف الموازنة المخصّصة لدعم التعليم؟ في ذلك الوقت كانت التقديمات تشمل، إضافة الى الأقساط الجامعية، تكاليف السفر بالطائرة ونفقات الإقامة في الدولة التي يسافر الطالب للدراسة فيها.

كان جواب رفيق الحريري سريعاً وبسيطاً: عليكم أن تختاروا الطلاب الناجحين والمعسرين. لا تفكّروا في العدد. أمّا الموازنة فأمرها بين الله وبيني.

بين آلاف الطلاب الذين تمّ اختيارهم طالب يتحدّر من أسرة فقيرة في إحدى قرى البقاع. كان متفوّقاً في دراسته وعاجزاً عن الالتحاق بأيّ جامعة محلّية. من حسن حظّه أنّه قُبِل للدراسة في إحدى الجامعات الفرنسية. ولمّا ركب الطائرة في طريقه إلى باريس وكان يطير للمرّة الأولى في حياته.. حاول فتح النافذة!! أمّا الآن فإنّه يُعتبر أحد أهمّ أطبّاء الأطفال في البقاع.

القصة الثالثة جرت في بيته في باريس (هو البيت التاريخي الأثري الذي أقام فيه المهندس الفرنسي الشهير إيفيل عندما كان يشرف على بناء البرج الذي يحمل اسمه)، حيث أبلغني للمرّة الأولى أنّه تلقّى عرضاً لرئاسة الحكومة في لبنان. وسألني: ما رأيك؟

قلتُ له يومها: لا أتمنّى لك هذا العمل. أفضّل لك أن تكون صانع رؤساء (وقلتها له بالإنكليزية King Maker) حتى لا تكون مجرّد “زائد واحد” على العاملين في السياسة المحليّة. ومن خلال موقعك وإمكاناتك وعلاقاتك تستطيع أن تلعب دوراً أساسياً في اختيار الرؤساء.

من يتذكّر الصورة التي كانت عليها بيروت بعد توقّف التقاتل الداخلي يدرك عدم واقعيّة الطلب، ويدرك واقعيّة الأسئلة. كانت أحلام البناء والتعمير أقوى من واقعيّة الأسئلة. وكان الشيخ رفيق يحلم، لكنّه كان يعرف كيف يحوّل حلمه إلى حقيقة

أذكر أنّه نظر إليّ باستغراب شديد، وقال لي: هل تحدّثت في هذا الأمر مع نازك (زوجته)؟ قلت له: أبداً، لم أرها اليوم أبداً. قال إنّها قالت له تقريباً الكلام نفسه وتمنّت عليه أن يبقى خارج المسؤولية السياسية المباشرة في لبنان.

لكن كانت للحريري تطلّعات لا يمكن تحقيقها عن بُعد: إكمال بناء لبنان بشراً وحجراً، وإعادته إلى خريطة المنطقة بتكوينه المميّز وبرسالته المميّزة. وهكذا وصل إلى الفاتيكان، وكان على رأسه البابا يوحنا بولس الثاني. ومن خلال العلاقة معه والإعجاب المتبادل، كانت المشاركة الإسلامية في السينودس من أجل لبنان (1993)، التي بدأت بها القصة الرابعة.

القصّة الرابعة:

شكّل البابا بالدعوة إلى السينودس سابقتين تاريخيّتين:

– الأولى هي الدعوة إلى سينودس من أجل دولة (لبنان). فالسينودس يُعقَد إمّا من أجل قارّة أو من أجل قضايا لاهوتية.

– الثانية هي دعوة مسلمين إلى السينودس، وهو أمر لم يحدث مطلقاً في تاريخ الكنيسة. والدعوة وُجِّهت إلى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني وإلى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين وإلى شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز الشيخ بهجت غيث.

فوجئ الثلاثة بالدعوة واحتاروا كيف يجيبون عليها. وفي اجتماع مشترك قرّروا توجيه رسالة شكر للبابا عبر السفارة البابوية في لبنان لدعوتهم، والاعتذار له عن عدم المشاركة. لقد استفظعوا مشاركة ممثّلين عنهم في مؤتمر ديني يُعقد برئاسة البابا وفي الفاتيكان.

هنا تدخّل رفيق الحريري وكلّفني نقل رسالة إليهم بأنّ السينودس لن يبحث شؤوناً دينية فقط، لكنّه سوف يبحث الشأن الوطني في لبنان ومستقبله، ومستقبل العيش المشترك. ولذلك فالمشاركة الإسلامية أكثر من مهمّة وأكثر من ضروريّة لأخذها بعين الاعتبار.

بهذا المنطق أعاد الرؤساء الروحيون الثلاثة النظر في موقفهم ووافقوا على المشاركة عبر ثلاثة مندوبين يمثّلونهم:

عباس الحلبي (وزير التربية الحالي) عن مشيخة العقل، والدكتور سعود المولى عن المجلس الشيعي، ومحمد السماك عن دار الفتوى.

إقرأ أيضاً: رفيق الحريري: دروس بيروتية لا تُنسى..

ولمّا جاء البابا يوحنا بولس الثاني إلى بيروت لإعلان وثيقة الإرشاد الرسولي التي صدرت عن السينودس، وجد العائلة اللبنانية بكلّ مكوّناتها في استقباله. ومنذ ذلك الوقت أطلق عبارته الشهيرة: “لبنان أكثر من دولة.. إنّه رسالة “.

اليوم في ذكرى استشهاد رفيق الحريري ترتفع علامة استفهام كبيرة حول مصير هذه الدولة.. ومصير تلك الرسالة؟!

إقرأ أيضاً

رفيق الحريري: التهاب الذكرى والذاكرة!

هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية….

حبيبي الشهيد رفيق الحريري: “لا تحزن”

هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية….

رؤية 1992

هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية….

رفيق الحريري: بصمات بيروتية لا تُمحى

هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية….