هجوم السيّد على الرياض: حدوده؟ ولماذا الآن؟

لماذا قام سماحة السيد حسن نصرالله بتصعيد غير مسبوق ضدّ السعودية في خطابه الأخير؟ ولماذا بدا وكأنّ الرياض، وليس واشنطن أو إسرائيل، هي العدوّ لحزب الله وراعيه الإيراني؟ وإلى أين يمكن أن يصل هذا التصعيد المتعمَّد في هذا التوقيت وفي هذا الوضع الإقليمي؟

تعالوا نبدأ القصّة من بدايتها:

لم تكن العلاقة بين حزب الله والرياض، بين سماحة السيد والمسؤولين السعوديين، محكوماً عليها بالعداء الكامل أو الصدام الدمويّ.

الهواجس طرحها نصرالله في لقاء جرى في بيروت مع مسؤول وعضو مهمّ في العائلة المالكة السعودية

يلتهب ترمومتر العلاقة ويهدأ بناءً على طبيعة العلاقة بين الرياض وطهران بالأساس.

وعلى الرغم من عدم وجود علاقات علنيّة بين حزب الله والرياض، إلا أنّه يمكن القول إنّ هناك 6 لقاءات، على الأقلّ، تمّت بين مسؤولين سعوديين (أمراء، مسؤولي أمن، سفراء للمملكة في لبنان) والسيد نصر الله.

في هذه اللقاءات كان انطباع الجانب السعودي عن سماحة السيد كالتالي:

1- إنّ الرجل حريص على أن يؤكّد أنّ حزبه ليس معادياً بشكل وجودي للمملكة، وأنّ موقفه من السياسة الإقليمية السعودية هو “سياسي مرتبط بطبيعة حجم الاقتراب أو الابتعاد السعودي عن مواجهة العدو الإسرائيلي”.

وكان نصرالله حريصاً على أن يؤكّد أنّ الخلاف السياسي مع بعض السياسات السعودية ليس طائفياً بأيّ شكل من الأشكال.

2- لاحظ الذين التقوا نصرالله رغبته في إبداء حسن النيّة، خاصة في بعض المسائل الأمنيّة أو الإفراج المتبادل عن بعض العناصر من الجانبين، أو في تخفيف حدّة التصريحات العدائية في الوسائل الإعلامية التابعة للحزب.

3- حرص نصرالله في هذه اللقاءات على تأكيد “قوّة علاقته المباشرة مع طهران”، والتأكيد أنّه لا يتعامل إلا مع مستويين فقط في التركيبة الإيرانية، وهما شخصية المرشد الأعلى، وليس رئيس الجمهورية، وشخصية قاسم سليماني والحرس الثوري، وليس وزير الدفاع والجيش.

4- في لقاء مع نصرالله، وأثناء الزيارة التاريخية للرئيس هاشمي رفسنجاني للمملكة، التي شملت الرياض وجدّة ومكّة والمدينة، واستمرّت عدّة أسابيع، كان الجوّ مهيّأً “وقتها” لدعوة سماحة السيد إلى زيارة السعودية وزيارة الحرمين الشريفين.

حدث التوتّر الأكبر عام 2006 بعد العدوان الإسرائيلي، حينما صدر بيان سعودي متعجّل ينتقد “توريط الحزب لبنان في مغامرة عسكرية”. ساعتئذٍ اعتبر الحزب أنّ الرياض تقف مع إسرائيل ضدّ معسكر المقاومة.

هذه الشكوى وهذه الهواجس طرحها نصرالله في لقاء جرى في بيروت مع مسؤول وعضو مهمّ في العائلة المالكة السعودية.

يومها ذكّره “الأمير” أنّ البيان الذي يتحدّث عنه تمّ تصحيحه ببيان آخر صدر عن الرياض بعد 24 ساعة يمثّل وجهة النظر الرسمية لمجلس الوزراء السعودي.

استغرب سماحته هذا الأمر، وطلب من أحد مساعديه البحث عن البيان الثاني السعودي، وبعد دقائق جاء المساعد بنصّ البيان الجديد، واكتشف الرجل أنّ البيان الثاني لم يكن تآمريّاً أو مضادّاً أو معادياً لمبدأ مقاومة العدوان الإسرائيلي.

تتّفق أو تختلف مع نصرالله، تحبّه أو تكرهه، من أنصاره أو من أعدائه، سوف تصل إلى نتيجة نهائية، وهي أنّ سلوك وأقوال وأفعال الرجل نتيجة طبيعية ومنطقية تتوافق مع نشأته وتعليمه الديني وانتمائه المذهبي وولائه لمشروع ولاية الفقيه.

على الرغم من عدم وجود علاقات علنيّة بين حزب الله والرياض، إلا أنّه يمكن القول إنّ هناك 6 لقاءات، على الأقلّ، تمّت بين مسؤولين سعوديين (أمراء، مسؤولي أمن، سفراء للمملكة في لبنان) والسيد نصر الله

وُلد نصرالله في 31 آب “أغسطس” 1960 لأب يعاني من ضيق الحال، وجد أنّ من الأفضل أن يرسله إلى الحوزة العلمية في النجف بخطاب توصية من الإمام محمد باقر الصدر الذي تعهّد تعليمه وإسكانه والإنفاق عليه.

في تلك الحوزة العلمية تكوَّن فكره الفقهي، ورأى في الإمام الصدر نموذجاً في “الفكر والقيادة والنضال”.

في العام 1978 أنهى الطالب حسن نصرالله ما يُعرف باسم “المقومات” التي شكّلت فكره ومواقفه.

عاد إلى لبنان وانضمّ إلى حوزة علمية أسّسها السيّد عبّاس الموسوي، اسمها “حوزة المنتظر” في بعلبك.

كانت هذه الحوزة نواة فكرية وعَقَدية لحركة المقاومة الشيعية التي عُرفت بعد ذلك باسم حزب الله.

وفي 16 شباط 1992 اغتالت إسرائيل السيد عباس الموسوي، واختارت أمانة حزب الله السيد حسن نصرالله لمنصب الأمين العامّ على الرغم من صغر سنّه.

من يقرأ تاريخ نصرالله جيّداً فسوف يكتشف أنّ خمس شخصيات رئيسية أثّرت في حياته بشكل عميق، وهي:

1- آية الله الخميني.

2- المرشد الأعلى خامنئي.

3- السيد عباس الموسوي.

4- الإمام محمد باقر الصدر.

5- الجنرال قاسم سليماني.

لاحظ أنّ الخمسة شيعة جهاديون ينتمون فقهيّاً إلى مدرسة الوليّ الفقيه الإثني عشرية، وسياسياً إلى دور طهران في تصدير الثورة الإيرانية عبر الحرس الثوري الإيراني ومن يواليه “من مجاهدين” لتهيئة البلاد والعباد لعودة الإمام الغائب.

لذلك كلّه، يمكن فهم أنّ 4 عناصر أساسية تحكم رأي ومواقف نصرالله:

1- مع كلّ ما يخدم مشروع دولة الوليّ الفقيه وضدّ كلّ من يعاديها.

2- مع كلّ ما يدعم الدولة المركزية (إيران) ونائب الإمام الغائب (المرشد الأعلى) ومع “أداة الجهاد” (الحرس الثوري).

3- نصرة الرفيق والأخ الجندي في دولة ولاية الفقيه عابرة لفكرة الوطنية أو الولاء الوطني، بمعنى لو اختلف حوثي يمني مع لبناني شيعي مضادّ لمشروع ولاية الفقيه فهو مع الحوثي ضد اللبناني الشيعي.

4- إيران هي الكعبة السياسية، وطهران هي مركز اتخاذ القرار، والعراق هو الاهتمام الاستراتيجي الأكبر المطلوب المحافظة عليه، و”مكّة والمدينة” مكانان مقدّسان، لكنّهما ليسا مركز قيادة مثل “قم”.

هذه العناصر هي عناصر حاكمة لا يمكن المرونة فيها ولا تجاوزها والمقايضة عليها مع سماحة السيد.

من هنا يمكن فهم الغضب من قصف طائرات التحالف العربي للحوثي، والغضب من تقارب الرياض مع الكاظمي ومقتدى الصدر، والقلق من حوارات السعودية مع إيران في بغداد، وأخيراً على مستوى الخبراء في الأردن.

إنّ لمسار توتّر العلاقة بين الرياض وحزب الله خارطة معقّدة.

أوصلت 3 أمور العلاقة بين الرياض والحزب إلى نقطة ملتهبة جدّاً، وهي:

1- اغتيال الشهيد رفيق الحريري، واقتناع الرياض بمسؤوليّة الحزب عن اغتيال رجل يُعدّ الحليف الأول للسعودية في لبنان، والرجل الذي يحمل جواز سفر سعوديّاً، وأحد مهندسي اتفاق الطائف.

2- الدور المباشر والتدخّل العسكري الصريح لقوات حزب الله في الحرب السورية إلى جانب النظام السوري وحلفائه من قوات الحرس الثوري والحشد الشعبي ضدّ المعارضة السورية.

3- وجاءت “القشّة التي قصمت ظهر البعير”، والتي اعتبرتها الرياض إعلان حالة عداء سياسي وكراهية طائفية وتهديداً للأمن القومي السعودي، حينما تولّى الحزب ملفّ الدعم الإيراني لميليشيات الحوثي وحزب أنصار الله في اليمن.

حرب اليمن هي جزء من مشروع طهران لاستخدام ميليشيات الوكلاء في إدارة شؤون المنطقة، واستخدام فائض هذه القوة ورقة ضغط أحياناً، وللمقايضة أحياناً أخرى مع واشنطن.

منذ العام 2016، عهد المرشد الأعلى إلى الجنرال قاسم سليماني التنسيق الكامل مع سماحة السيد حسن نصرالله في إدارة شؤون هذا الملفّ.

ومع مكانة السيد في دائرة المرشد الأعلى، وطبيعة العلاقة الشخصية القوية جدّاً بين سليماني ونصرالله، ازداد دور الأخير في الإمساك بدفّة الملفّ.

من هنا نفهم دور السيد والحزب في التلقين السياسي لجماعة أنصار الله، وغسل الدماغ الفقهي للحوثيين ذوي الأصول “الزيدية” التي تُعتبر أقرب إلى المذهبين الحنفي والشافعي. وعلى الرغم من ذلك أعلنوا أنفسهم “جنوداً أوفياء في مشروع دولة الولي الفقيه الإثني عشري”.

أصبح خبراء القتال والكوادر العسكرية لحزب الله هم من يقومون بالتدريب العسكري وتقديم النصح والمشورة في إدارة المعارك وفي إيصال الأسلحة إلى المقاتلين الحوثيين والمساعدة على تركيب الطائرات المسيّرة وتقديم إحداثيّات الصواريخ البالستية.

وأخيراً جاءت القرصنة البحرية باختطاف باخرة شحن مدنية تحمل العلم الإماراتي من أمام ساحل رأس عيسى لتؤكّد دور الحرس الثوري وحزب الله في تفاصيل وتكتيك مثل هذه العمليات النوعيّة.

من هنا نفهم أنّ خطاب نصرالله الأخير في ذكرى اغتيال قاسم سليماني هو تعبير عن 3 أمور:

1- غضب “شريك سليماني في العمليات” من عدم محاسبة النظام العراقي (مصطفى الكاظمي) على اغتيال سليماني، وعدم وجود تحقيقات جدية في الموضوع، والأهمّ اعتبار البعض أنّه يتمّ الاتفاق رسمياً مع “واشنطن القاتلة” كما يُتّفق مع إيران (الضحيّة).

2- وإذا كان الأميركي بمفهوم سماحة السيد “عدواً”، فإنّ حليفه السعودي أكثر عداءً للمشروع الإيراني ولأنصاره في لبنان واليمن وسوريا والعراق وفلسطين.

3- انطلاقاً ممّا سلف يُفهم غضب سماحة السيد من ضربات طائرات التحالف الأخيرة لأهداف استراتيجية في اليمن، وغضبه من صعود نفوذ التيار الصدري المعبّر عن الشيعية العربية غير الفارسية، وغضبه من خطوط الاتصال المميّزة والمتناهية بين الكاظمي والأمير محمد بن سلمان، وغضبه من المقاطعة الخليجية للنظام في لبنان، الأمر الذي يشكّل ضغطاً وإحراجاً لحزب الله.

تؤكّد المصادر المطّلعة في الرياض أنّه “لا يمكن لنا أن نموّل مشروعاً في لبنان يؤدّي في النهاية إلى خدمة مصالح حزب الله الداعم لميليشيات الحوثي المعادية لنا والمهدّدة لمراكز النفط والمطارات المدنية والمواطنين العزّل”.

لذلك كلّه يخطئ تماماً من يعتقد أنّ خطاب نصرالله الأخير هو خطاب زعيم سياسي لبناني، بل تعبير صادق جدّاً عن غضب وقلق مدير المشروع الإيراني لإدارة شؤون المنطقة العربية.

إقرأ أيضاً: “الرهائن” في السعوديّة ولبنان: من يودّ الرحيل؟

يحدث هذا مع وصول مفاوضات فيينا النووية إلى مرحلة دقيقة ومفترق طرق خطر. من هنا تكون مهمّة صواريخ وقوارب الحوثي، وتصريحات سماحة السيد التصعيد المستمرّ للتأثير ليس على مسرح العمليات، لكن على مسرح غرفة المفاوضات في فيينا!

أزمة هذه العلاقة هي عدم فهم إيران والحزب وسماحة السيد لقانون الفعل وردّ الفعل عند الملك السعودي ووليّ عهده.

إذا استمرّ ذلك الفهم المغلوط فالخلاف مرشّح لصراع قد يصل إلى مواجهات مفتوحة ومؤلمة.

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…