عون يورِّث جبران.. لبنان ليس ملك أبيك

في اجتماع التحرير لمجلّة “البلاد” الناطقة باسم “تجمّع العلماء المسلمين”، والمموّلة من إيران قبل توقّفها عام 2000، بعد وفاة باسل الأسد بحادث سير على طريق مطار دمشق الدولي عام 1994، جرى نقاشٌ حول الغلاف الذي سيصدر به عدد المجلّة في حينه، فاقترح رئيس القسم الدولي في المجلة، مع التحفّظ عن ذكر اسمه بناءً على طلبه، العنوان التالي: “أخطأ معاوية فهل يخطئ حافظ الأسد؟”. نظر أعضاء مجلس التحرير بذهول بعضهم إلى البعض الآخر، وصرخ أحد المشرفين السياسيين على المجلّة موجّهاً كلامه إلى صاحب الاقتراح قائلاً: “هل تريد أن تقتلنا جميعاً؟”.

قصد المحرّر في عنوانه أنّ معاوية بن أبي سفيان أخطأ حين أورث نجله يزيد الحكم بعد موته، فتساءل إن كان حافظ الأسد سيُخطئ بدوره ويورّث نجله بشّار الحكم، مع الإشارة إلى أنّ الجامع ما بين معاوية وحافظ الأسد أنّهما حكما سوريا ومحيطها.

كلّ الكلام الصادر من هنا وهناك عن حلم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومسعاه إلى توريث الرئاسة لصهره النائب جبران باسيل يشير إلى توجّه انقلابيّ في أعراف الحكم في لبنان

في جلسة مع رئيس الاستخبارات الجويّة في النظام السوري عبد الفتاح القدسية (أبو خالد)، في مكتبه بفرع فلسطين في دمشق، وقد كنتُ حينذاك المدير الإقليمي لصحيفة “عكاظ” السعودية في لبنان وسوريا، قال لي: “عندما تُوفّي الرئيس حافظ الأسد خرجت الجرذان من جحورها تريد الحكم، وكانت هذه الجحور في مقرّات الحزب ومؤسسات الدولة. لكنّنا كنّا نعي وندرك مخطّطاتها، وأحبطنا كلّ ذلك خلال 24 ساعة. فالحكم لآل الأسد وليس لغيرهم”.

لم تبدأ الأزمة السورية في 15 آذار 2011 عندما نزل إلى سوق الحميديّة في دمشق 5 أشخاص، بينهم امرأتان، يصرخون: “الشعب يريد إسقاط النظام”، أو حينما سار أهل درعا منتفضين غاضبين على مقتل ابنهم الطفل حمزة الخطيب تحت تعذيب الاستخبارات السورية، بل، وللدقّة والتاريخ، بدأت أزمة سوريا عندما مات حافظ الأسد وورث نجله بشّار الحكم.

هي ليست أزمة سوريا وحسب، بل هي أزمة مصر عندما عمل حسني مبارك على توريث الحكم لنجله جمال، وعمل في اليمن علي عبد الله صالح على توريث الحكم لنجله أحمد، وكذلك شأن معمّر القذافي في ليبيا مع نجله سيف الإسلام.

قد يقول البعض إنّ من حقّ هؤلاء أن يورثوا الحكم لأبنائهم، فهناك ممالك وإمارات عربية الحكم فيها يخضع لمنطق التوريث، لكنّ هذا البعض يُغفل أنّ تلك الدول تطلق على نفسها اسم مملكة أو إمارة، والحال هذه يكون التوريث من أدبيّات السلطة، كما هو معلن، والناس والشعوب فيها تبايع على ذلك، وليس كما هو مخفيّ عند دول تطلق على نفسها اسم الجمهوريّات وترسل شعوبها إلى صناديق الاقتراع في مواسم الانتخابات.

لا يستوي العيش في لبنان على مبدأ التوريث. الطوائف في دواخلها أحزاب وتيارات ومؤسسات حرّة في اعتمادها التوريث للحفاظ على زعمائها

بعد كلّ ما تقدّم، أعود إلى لبنان حيث تُورَّث الزعامة وتُورَّث المواقع في العديد من الأحزاب، إلا أنّ لبنان لم ولن يشهد يوماً توريثاً في مواقع الحكم، وتحديداً في رئاسة الجمهورية. كلّ الكلام الصادر من هنا وهناك عن حلم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومسعاه إلى توريث الرئاسة لصهره النائب جبران باسيل يشير إلى توجّه انقلابيّ في أعراف الحكم في لبنان قبل الحديث عن الانقلاب على الدستور وروحه.

لا يستوي العيش في لبنان على مبدأ التوريث. الطوائف في دواخلها أحزاب وتيارات ومؤسسات حرّة في اعتمادها التوريث للحفاظ على زعمائها. فآل الجميّل قد يكونون أحراراً في توريث رئاسة الكتائب، وآل جنبلاط ربّما لهم كامل الحرية في توريث الحزب التقدّمي، وكذلك آل الحريري في تيار المستقبل، وميشال عون في التيار الوطني الحرّ له الحريّة الكاملة في توريث التيار لجبران أو لشامل أو لأيّ بنت من بناته. في توريث التيار لجبران أو لشامل أو لأيّ بنت من بناته. إلا أنّ رئاسة الجمهورية، كما كلّ الرئاسات في لبنان، لا يمكن توريثها للأبناء أو لفروع العائلة، وللجميع عبرة في رئاسة الحكومة في السنوات الأخيرة حيث “المعضلة المقتلة” في الوقت نفسه كانت اعتقاد الرئيس سعد الحريري أنّ رئاسة الحكومة جزء من إرث والده، فمنعها عن مصطفى أديب، وحارب مَن اقترب منها.

لا يمكن للرئيس نبيه بري، ولا أعتقده يفكّر في ذلك على الرغم من سطوته وحنكته وقوّته السياسية، أن يورث رئاسة مجلس النواب لأحد أنجاله مصطفى أو عبد الله، وكذلك لا يمكن لحلم ميشال عون بتوريث صهره جبران رئاسة الجمهورية أن يتحقّق. أحلام كهذه تتحوّل إلى كوابيس وطنيّة تُفقد الوطن استقراره في العيش والنوم وفي المأكل والمشرب. المساس بهذه المعادلة هو اعتداء على وجوديّة لبنان ومصيره. عبر الأزمنة، اعتقد البعض أنّ لبنان ملكٌ لطائفة. هكذا ظنّ المسيحيون، وبخاصّة الموارنة، ومثلهم فعل المسلمون لاحقاً سُنّةً وشيعةً، لكنّهم جميعاً خابوا مستحضرين الحروب والدماء والخراب والويلات على البلاد والعباد. فكيف إن اعتقد أحدهم أنّ هذا الوطن هو ملك عائلته، لا بل ملك أبيه أو ملك عمّه والد زوجته.

الوطن ليس ملكاً لأيّ فرد من الأفراد، لا أبيك ولا أخيك ولا ابن عمّك ولا عمّك. الوطن ملك اللبنانيين كلّ اللبنانيين.

إقرأ أيضاً: المسيحيّون يصرخون: نريد تطبيق الطائف الآن

اتّعظوا يا أولي الألباب. مات حافظ الأسد فدُفِنت سوريا على يد نجله بشّار. ومات معمّر القذافي وها هو ابنه سيف الإسلام يحاول الترشّح للحلول مكانه لعلّه يجهز على ما تبقّى. ومات علي عبد الله صالح فانتهى اليمن السعيد. حافظوا على لبنان. لا نريد لهذا الوطن أن ينتهي.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…