الحياد و”الاستقلال الثالث”

كان من المفترض أن يكون العام 2020 – 2021 عاماً يوبيليّاً لمناسبة الاحتفال بمئوية تأسيس لبنان في 20 أيلول من عام 1920، إثر إعلان دولة لبنان الكبير، وذلك بأن تُختتم هذه المئوية باحتفالات وطنية جامعة في 20 أيلول من عام 2021. وكان من المفترض أن تكون ذكرى الاستقلال هذا العام، الأولى في المئويّة الثانية للبنان، مناسبةً لتأكيد استقلاليّة القرار في الوطن والنهوض به نحو الأفضل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولكنّ الواقع مناقض تماماً. فالعام اليوبيليّ كان عام الانهيار الكبير، انهيار الدولة بكلّ مؤسّساتها وقطاعاتها الاقتصادية والماليّة والتربوية والاستشفائية… وانهيار شعبها أيضاً. وتحلّ ذكرى الاستقلال الثامنة والسبعون ولبنان قابع تحت احتلال هو الأخطر منذ نشأته في العام 1920، ومنذ استقلاله في العام 1943.

قبل الكلام عن هذا الاحتلال وخطورته، نودّ الإشارة إلى أنّ قلّة قليلة من المرجعيّات الوطنية والأطراف السياسية كانت قد بدأت، قبل “الثورة” والانهيار، التفكير في إحياء الذكرى المئوية للدولة.

إذا كان سقوط لبنان القديم يحتّم على النخب والمرجعيّات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني طرح أفكار ترتبط بلبنان الجديد، فإنّ الاحتلال السياسي الإيراني يحتّم علينا أيضاً النضال من أجل تحرير البلاد منه

ينبع هذا الكلام من موقع المطّلع عن قرب، إذ كنّا قد شهدنا لدى العديد من الأحزاب والمرجعيّات الوطنية والصروح العلمية استعداداتهم للمناسبة. وفي المقابل، كان عدم الاكتراث سيّد الموقف لدى العديد منها. وعلى الرغم من اقتراح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند التنسيق بين السفارتين لإحياء الذكرى فرنسياً ولبنانياً، وسؤال البطريرك الماروني عدّة مرّات، لم تكن دوائر القصر الجمهوري بصدد إعداد أيّ شيء للمناسبة. أمّا المجلس النيابي والحكومة فأعضاؤهما كانوا منشغلين بالمحاصصات والصراعات التي دمّرت البلد ومؤسّساته.

عدم الاكتراث بالمناسبة له دلالات كثيرة، أبرزها عدم التزام اللبنانيين بدولتهم، وعدم اكتراثهم بتطويرها وتطوير دستورها وقوانينها وأداء مؤسّساتها… وربّما لا يكون رفض البعض للنظام فقط، إنّما للكيان أيضاً. وتردّدت في تلك الآونة بعض الأصوات، في لبنان وسوريا، تذكّر برفضها اتفاقية سايكس-بيكو، لتقول إنّ لبنان هذا هو صنيعة الفرنسيّين. وفي هذا جهل لتاريخ لبنان الحديث أو تنكّر له. فالتاريخ يؤكّد أنّ كيان دولة لبنان الكبير أتى نتيجة تراكم سياسي وإداري يعود إلى نظام القائمقاميّتين ونظام المتصرّفيّة. ويعيده البعض إلى الإمارة في القرن السادس عشر. وهو تطوّر طبيعي في جيوسياسة البلدان. إذ إنّ غالبية الدول لها ما يسمّى “المنطقة البؤريّة”، وبالفرنسية “région focale”. وهي الجغرافيا التي بدأ عليها تأسيس الكيان ليصبح ما هو عليه اليوم. ومثال على ذلك، “المنطقة البؤرية” للدولة الفرنسية الحالية هي “الجزيرة الفرنسية” (Île de France)، وإنكلترا (England) هي “المنطقة البؤرية” للدولة البريطانية. لذلك ليست دولة لبنان وليدة قرار فرنسي، وليست مشروعاً مارونيّاً على الرغم من المساهمة الكبيرة لبطريرك الموارنة فيه. إنّما هي كيان له “منطقته البؤرية” في جغرافيا جبل لبنان. وتطوّرت هذه الجغرافيا لتصبح ما هي عليه اليوم بحدودها المعترف بها دوليّاً.

لا ينفي هذا التطوّر في جغرافيا الأوطان أنّ لكلٍّ منها تاريخ تأسيس أو استقلال، أو الاثنين معاً. وغالباً ما تكون هذه التواريخ مناسبةً تتوقّف عندها المجتمعات للتفكير في ما آلت إليه أمورها. فكيف بالحري إذا كانت الذكرى يوبيليّة مئويّة، وتأتي في ظروف صعبة جدّاً يمرّ بها الوطن؟

 

بكركي والمناسبة

توقّفت بكركي، من حيث هي مرجعية وطنية، عند هذه المناسبة. وكانت قد بدأت الإعداد لها منذ العام 2018، ليس لتنظيم احتفالات عابرة، إنّما لإطلاق ورش بحث وقراءة نقدية للمئة عام المنصرمة من حياة الوطن، وكانت ستدعو إلى المشاركة فيها كلّ مكوّنات المجتمع اللبناني لاستشراف المستقبل معاً. وكان لكاتب هذه السطور مساهمة في إعداد مسوّدة هذا المشروع بعنوان: “أيّ لبنان نريد بعد المئويّة الأولى؟!”. وهي عبارة عن “جردة حساب” لمئة عام. طرحنا فيها مجموعة مواضيع، من بينها الصيغة والميثاق، النظام والديموقراطية التوافقية، الطائفية السياسية، الحياة الحزبية، هجرة اللبنانيين، النزوح الاختياري والقسري، وتبدّل الديموغرافيا، نظام الاقتصاد الحرّ والنظام المالي، القطاع التربوي وكيفيّة الحفاظ عليه وتطويره، اللامركزية الإدارية الموسّعة، اللجوء الفلسطيني والنزوح السوري، السياسة الخارجية والحياد وتحييد لبنان عن الصراعات… إلى ما هنالك من مواضيع تستحقّ البحث في إطار جردة حساب وطنية لمئة عام من حياة وطن.

يأتي طرح البطريرك الماروني لـ”الحياد”. وعلى الرغم من استحالة تطبيقه اليوم، فإنّه طرح استراتيجي يستحقّ النضال من أجله

ما لزوم هذا الكلام اليوم ولبنان أصبح في قلب الانهيار؟

فلبنان دولته مشلّعة. مؤسّساته مشلولة. اقتصاده منهار. قطاعه المصرفي مدمّر. ليرته فقدت قيمتها. جامعاته ومدارسه مهدّدة بالإقفال. مستشفياته تعاني من أجل الاستمرار. أكثر من 80% من شعبه أصبح فقيراً. وأكثر من 40% تحت خطّ الفقر المدقع. الهجرة بعشرات الآلاف. هجرة أطباء وممرّضين، مهندسين ومحامين… والأخطر هجرة الأساتذة الذين يصنعون الطبيب والممرّض والمهندس والمحامي… وربّما البعض يسأل ما لزوم هذا الكلام ولبنان تحت الاحتلال الإيراني؟

إذا كان سقوط لبنان القديم يحتّم على النخب والمرجعيّات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني طرح أفكار ترتبط بلبنان الجديد، فإنّ الاحتلال السياسي الإيراني يحتّم علينا أيضاً النضال من أجل تحرير البلاد منه، لأنّه لا قيامة للبنان جديد في ظلّ هذا الاحتلال، ولأنّه الأخطر على لبنان منذ الاستقلال لعدّة أسباب:

1- إنّه ليس احتلالاً مباشراً. فإيران ليست لديها قوات عسكرية إيرانية في لبنان كما هو الحال مع الفلسطينيين والسوريين. لكنّها تسيطر عليه بواسطة لبنانيين. وما يزيد من خطورة هذا الوضع هو إيمان هؤلاء بعقيدة دينية تجعل اتّباعهم السياسي والعسكري للوليّ الفقيه في إيران واجباً دينياً.

2- إنّه احتلال لديه مشروع إقليمي، ويُعتبر حزب الله جزءاً من هذا المشروع وقوة عسكرية لاستكماله. لذلك انتقل الحزب إلى القتال في سوريا. ثمّ انتقل إلى العراق للمشاركة في تأسيس وتدريب الفصائل العراقية في الحشد الشعبي التابع لإيران. وبناء على أمر الوليّ الفقيه أيضاً، انتقل إلى اليمن، حيث لا مقامات دينية ولا تكفيريّين، لتدريب وتسليح جماعة أنصار الله الحوثيّين، وللمشاركة في الحرب ضدّ الشعب اليمني وضدّ الأراضي السعودية والخليجية بشكل عام.

3- إنّه احتلال لديه تنظيم عسكري يفوق بتسليحه وعدد عناصره وميزانيّته إمكانيات الجيش اللبناني. ويبيح لنفسه التصرّف عسكرياً وأمنيّاً وكأنّه تنظيم عسكري شرعي.

4- إنّه احتلال يسلخ لبنان عن محيطه الجيوسياسي العربي، ويضعه في مواجهته. وهو عاجز عن تقديم أيّ من مقوّمات الصمود السياسية والاقتصادية والماليّة والاجتماعية، خاصة أنّ إيران نفسها تعاني أزمات اقتصادية وماليّة واجتماعية أكثر صعوبة بسبب العقوبات الأميركية المفروضة عليها.

5- يضع هذا الاحتلال لبنان في قلب الصراعات الإقليمية والدولية، فيؤخّر خروجه من مأزقه بانتظار الحلول في المنطقة. في حين أنّ الانهيار يقضي على ما بقي من البلاد والعباد.

إقرأ أيضاً: نحو جبهة وطنية للإنقاذ: الاستقلال الثالث

في هذا الإطار، يأتي طرح البطريرك الماروني لـ”الحياد”. وعلى الرغم من استحالة تطبيقه اليوم، فإنّه طرح استراتيجي يستحقّ النضال من أجله. وهذا النضال مثلّث الأبعاد: داخلي وإقليمي ودولي. ولا خلاص للبنان، ولا تحقيق لـ”الاستقلال الثالث”، ولا قيامة للبنان جديد، إلا إذا كان الحياد أساساً لأيّ طرح. وللبحث صلة…

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة.

إقرأ أيضاً

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…

“حصانة” إيران أم “الحصن” الإسرائيليّ؟

لماذا تعمّدت طهران ليلة السبت المنصرم الكشف عن كلّ تفاصيل خطة الهجوم الذي أعدّته ضدّ تل أبيب انتقاماً لاستهداف قنصليّتها في دمشق قبل أسبوعين والتسبّب بسقوط قيادات…

بايدن الرابح الأكبر من الضربة الإيرانيّة لإسرائيل

 ربح جو بايدن مزيداً من “المونة” على إسرائيل يمكّنه من لجم اندفاعها العسكري ضدّ إيران بعد توظيفه الدفاع عنها في المشهد الانتخابي. اكتسبت طهران موقع…