لهذه الأسباب الدولار لن يرتفع

على الرغم من التذبذب الذي شهده سعر صرف الدولار في اليومين الماضيين، وتسجيله رقماً جديداً لامس 21,500 ليرة في “السوق الموازي”، لا مؤشّرات جدّيّة تدلّ على استمرار ارتفاعه أكثر، وخصوصاً أنّ حركة “العرض والطلب” هادئة جدّاً ولا تعكس حجم الارتفاع الذي نراه منذ يومين، وتراه مصادر مصرفية “مؤقّتاً ومصطنعاً”.

 صحيح أنّ الدولار يرتفع ظاهريّاً وقياساً بفترات زمنية محدّدة لا تتعدّى أسبوعاً أو أسبوعين، لكن في المنحى العامّ يُصنَّف على أنّه “مستقرّ”

وقد كشف مصدر صيرفيّ لـ”أساس” أمس أنّ حركة العرض والطلب في اليومين الماضيين كانت “أكثر من طبيعية”، وخصوصاً لناحية “محدوديّتها لدى التجّار والمستوردين”، الذين يشكّلون عادة “العمود الفقريّ لظاهرة الطلب على العملة الخضراء”. وأكّد المصدر أنّ طلب هؤلاء على الدولار “انخفض بشكل ملحوظ في الأسابيع الماضية”، عازياً ذلك إلى تراجع القدرة الشرائية لدى أغلب اللبنانيّين، وخصوصاً بعد ارتفاع سعر المحروقات ومع بداية موسم العام الدراسي الجديد الذي يكون عادةً مثقلاً بالمصاريف والحاجات.

كشف المصدر أيضاً أنّ أغلب العملاء لديه ولدى زملائه من الصرّافين في العاصمة بيروت، باتوا يشتكون منذ نحو شهر من أنّهم بدأوا “المسّ بخطوطهم الحمر”، لناحية حاجتهم المتزايدة إلى صرف ما يكتنزونه من دولارات في المنازل، نتيجة عدم قدرتهم على سدّ حاجاتهم ممّا يجنونه شهريّاً بالليرة اللبنانية.

وهذا كلّه يُشير إلى أنّ فورات سعر الصرف المجنونة، التي كنّا نشهدها سابقاً، باتت مستبعدة اليوم، وأنّ المنحى التصاعدي للدولار آخذ أكثر فأكثر إلى الهدوء والاستقرار. صحيح أنّ الدولار يرتفع ظاهريّاً وقياساً بفترات زمنية محدّدة لا تتعدّى أسبوعاً أو أسبوعين، لكن في المنحى العامّ يُصنَّف على أنّه “مستقرّ”، إذ يكفي أن نشير إلى أنّ سعر الصرف يلازم هامش 20/21 ألفاً منذ نحو 3 أشهر… وهذا طبعاً يعود إلى جملة من الأسباب الموضوعيّة الملموسة، نلخّصها بالتالي:

أوّلاً، تبدُّد الهامش الذي كان موجوداً في السابق بين سعر صرف الدولار وبين أسعار السلع بالليرة اللبنانية، وخصوصاً سلع الموادّ الغذائية والاستهلاكيّة مثل الخضراوات والفواكه اللبنانية واللحوم وخلافه… هذا الفرق، وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار نسبيّاً، بدأ منذ مدّة بالتبدّد تباعاً إلى أن صارت أسعار السلع كلّها باهظة، وليس في متناول الكثير من المواطنين، الذين هم بدورهم فئتان:

– فئة تقبض بالليرة اللبنانية، وتشكّل السواد الأعظم من القوى العاملة، وأغلبهم من موظّفي الدولة والقطاع الخاص المحلّي (نحو 95% من اللبنانيين بحسب أرقام “الدولية للمعلومات”). وقد بدأت هذه الفئة تميل بسلوكها إلى حرمان نفسها من كثير من المتطلّبات والسلع.

– فئة تقبض بالدولار، وتحصل على هذه الدولارات “الفريش” لقاء عمل مع الخارج، وقد بدأت تشعر بتقلّص هامش قدرتها الشرائية نتيجة الفرق بين الأسعار الذي بدأ يضيق. بمعنى آخر، فإن كانت الـ100 دولار تشتري 40 سلعة غذائية متنوّعة، فما عادت اليوم قادرة على شراء أكثر من نصف عدد هذه السلع.

كشف مصدر صيرفيّ لـ”أساس” أمس أنّ حركة العرض والطلب في اليومين الماضيين كانت “أكثر من طبيعية”، وخصوصاً لناحية “محدوديّتها لدى التجّار والمستوردين”، الذين يشكّلون عادة “العمود الفقريّ لظاهرة الطلب على العملة الخضراء”

ثانياً، شكّل رفع الدعم سبباً رئيسياً لتآكل رواتب المواطنين وتراجع قدرتهم الشرائية، وخصوصاً رفع الدعم عن المحروقات الذي وضع اللبنانيين في ما يشبه “الإقامة الجبريّة”، بعدما حدّ سعر البنزين المرتفع من تنقّلاتهم، وأجبر الكثير منهم على “أن يتشاركوا وسيلة نقل واحدة” (يتشارك عدد من الأشخاص سيّارة أحد منهم، وكلّ يوم يتناوب كلّ منهم في نقل زملائه في سيّارته). استطاع هذا الواقع أن يقلّص كثيراً حجم استهلاك الوقود (يقدّر عضو نقابة أصحاب المحطات جورج براكس هذا الانخفاض بنحو 30%، ويُتوقّع أن يصل في الأيام المقبلة إلى حدود 40%)، وكان عاملاً رئيسياً في ضبط سعر الصرف، لأنّ ارتفاع أسعار المحروقات بهذا الشكل القياسي كان من الأسباب المباشرة لاستنزاف رواتب الناس، وأيضاً مدّخراتها الدولارية الموجودة في المنازل.

ثالثاً، انخفاض فاتورة استيراد السلع من الخارج، إذ تشير أرقام مديرية الجمارك للسنة الماضية (2020) إلى أنّ الاستيراد سجّل تراجعاً لامس 26% عن العام الذي سبقه، وقد بدأ هذا التراجع بالظهور اعتباراً من آذار 2020 (كان سعر الصرف قرابة 3000 ليرة فقط) واستمرّ إلى أكثر من النصف مع حلول شهر تشرين الثاني (سعر الصرف في حينه وصل إلى نحو 8000 ليرة).

هذه الأرقام هي أرقام العام 2020، وقد شارفنا على نهاية العام 2021، الذي يسجّل حتماً تراجعاً إضافياً في فاتورة الاستيراد التي يصعب الاطلاع على تفاصيلها قبل نهاية العام الحالي. لكنّ الأكيد أنّ حجم فاتورة الاستيراد سيشهد المزيد من الانخفاض أكثر وأكثر عن أرقام العامين 2019 و2020، وسيسجّل الاستهلاك تراجعاً إضافياً، في حال أقرّت الحكومة مشروع “الدولار الجمركي” الذي سيرفع سعر الدولار من 1500 ليرة إلى سعر منصّة “صيرفة” الخاصّة بمصرف لبنان الذي يُقدّر اليوم بنحو 17 ألف ليرة لبنانية (تشير المعلومات إلى أنّ الرئيس نجيب ميقاتي جادّ في السير به من أجل زيادة إيرادات الدولة). هذه الزيادة ستخنق الاستهلاك أكثر وأكثر، وستخنق الاستيراد كذلك، وستنعكس على حجم طلب المستوردين على الدولار في “السوق الموازي”، وهذا سبب إضافي إلى استقرار سعره.

إقرأ أيضاً: المصارف تسرقكم مجدّداً… وبالدولار

رابعاً، تطبيق التعميم 158 الذي ألزم المصارف بدفع 400 دولار “فريش” من ودائع المودعين، ممّن يلبّون الشروط التي وضعها مصرف لبنان، وخصوصاً بعد التعديلات التي أدخلها مصرف لبنان على التعميم الأول، إذ تشير أرقام جمعية المصارف إلى أنّ نسبة الذين وافقوا على الاستفادة من مضمون هذا التعميم قد فاقت 80% من عدد الذين يلبّون شروط الاستفادة منه. وهذا طبعاً قد زاد من منسوب وفرة الدولارات بين أيدي فئة من اللبنانيين، بمعدّل 400 دولار شهرياً.

لهذه الأسباب، لن يرتفع سعر صرف الدولار بعد الآن. اللّهمّ إلّا إذا طرأ جديد من خارج السياق… ولبنان بلد المفاجآت.

إقرأ أيضاً

الدولار المصرفي بين الخبث واللبس

أيقظت الأعياد آلام أصحاب الودائع بالدولار المحلّي، واستوطن الحزن في نفوسهم. فالضبابيّة المتعمّدة حول سعر صرف الدولار المصرفي هي أداء غير مسؤول يفتقر إلى المناقبية…

الموازنة: المجلس الدستوري علّق 9 مواد… فهل يعلّقها كلّها؟

يقترب موعد بتّ المجلس الدستوري بالطعون المقدّمة ضدّ بعض الموادّ في “قانون الموازنة”. إذ يُنتظر أن يعلن المجلس الدستوري قراره النهائي في غضون أسبوع، أي…

لغز استقرار الليرة في لبنان: ماذا لو هبّت العاصفة؟

حالة الاقتصاد تبدو محيّرة: استقرار لسعر صرف الليرة في لبنان منذ الصيف الماضي. وفائض في ميزان المدفوعات. فيما تعيش البلاد حرباً في الجنوب وشللاً سياسيّاً…

بداية حل الأزمة المصرفية توصيفها

التوقّف عند أرقام الخسارة والفجوة الماليّة، والعودة بالتاريخ إلى الوراء في محاولة لإعطاء حياة لخطط وحلول وُلدت ميتة في الوقت الذي كان يجب أن تكون…