اغتيال الكاظمي: متى تصل الطائرات المسيّرة إلى بيروت؟

التفجير في بغداد… والرعب في بيروت.

الشعوب تعرف. الجرائم السياسية لا تحتاج إلى تحقيقات ميدانية. حين قتلوا رفيق الحريري، كان الإحساس الشعبي أسرع من المحكمة الدولية بعشرين عاماً.

هي الحاسّة السادسة في السياسة. أن نعرف مَن هو الجاني لحظة وقوع الجريمة. أن نتلمّس وجه القاتل قبل أن تبرد نيران الحرائق.

ساعات قليلة بعد محاولة اغتيال رئيس حكومة العراق مصطفى الكاظمي، خرج صحافيّون في بيروت، قريبون من أعداء الكاظمي، ليعلنوا أنّ “لبنان تحت مرمى الاغتيالات”. كأنّهم يقولون لنا: “انتبهوا… إنّه وقت التفجير بتوقيت المنطقة”

نحن أبناء هذا الشرق الذي يتعفّن بالتهاباته. يتعفّن بالاستبداد. تنبعث من أيامنا روائح القرون الصعبة. قرون السواد والدماء. ونحن نغرق كلّ يوم. نعرف أنّ القاتل لا يشبع. يستمرّ في سعيه إلى بناء إمبراطوريّة من حديد ونار. ولا سبيل أمامه إلّا أن يرفع جبالاً من جماجمنا. ونحن نعرف هويّته. نعرف أسماءه الكثيرة ووجوهه التي يتفنّن في الإكثار منها. ونعرف أنّه يريد أن يطبق على أنفاسنا. أن نستسلم له. أن نأكل ونشرب وننام ونترك له إدارة مصائرنا بلا سؤال. أن ننساق وراء حروبه كالغنم. وأن نسكت ولا نقول ما لا يرضيه.

الشعوب تعرف. والإمبراطورية، التي تمتدّ حوافرها كالالتهابات في مدننا ودولنا، تبدو عصيّة على الاكتمال. تتوسّع الإمبراطوريّات بالتفوّق، صناعيّاً واقتصاديّاً وماليّاً. تتوسّع أحياناً تحت ضغط حاجاتها إلى الأسواق أو إلى الموادّ الأوّليّة. لكن لم نشهد إمبراطوريّات مفلسة تحاول التوسّع بالقتل فقط.

ما هذا الاقتراح؟ وكيف تُراكم المدن الذبيحة بين يديها؟ ولماذا تنتقل من بلد إلى آخر؟ تفسّخ المجتمعات وتبني جبالاً من الجثث؟ ما هذا الجوع العتيق إلى الدماء والدموع والجوع؟

ساعات قليلة بعد محاولة اغتيال رئيس حكومة العراق مصطفى الكاظمي، خرج صحافيّون في بيروت، قريبون من أعداء الكاظمي، ليعلنوا أنّ “لبنان تحت مرمى الاغتيالات”. كأنّهم يقولون لنا: “انتبهوا… إنّه وقت التفجير بتوقيت المنطقة”.

جاءت محاولة قتل الكاظمي بعد “تفجير” طاولات الحوار في بغداد. تفجير الدَّور جاء أوّلاً، ثم محاولة تفجير الرجل خلف الدور. طارت طاولة الحوار السعودي الإيراني قبل أسبوع. طارت بعدما خسرت إيران الانتخابات النيابية العراقية بدت بغداد مدينة “متمرّدة” على الإمبراطور. انتخب العراقيون، الشيعة تحديداً، ضدّ رغبة المرشد. فطار الحوار، ودخلت طائرات مسيّرة ومفخّخة تبحث عن الرجل الذي حاول حماية “ثورة تشرين”، ورفض سحقها، حتّى أزهرت هذه النتيجة البرلمانية.

والصدفة أن يكون “تشرين العراقي” قد تزامن مع “تشرين اللبناني”. ثورتان ضدّ “الطبقة السياسية الفاسدة”، مع ملحٍ كثيرٍ من السياسة. وفي السياسة، الحاكم واحدٌ في بيروت وبغداد. الحاكم الميداني بالسلاح والرجال، والحاكم السياسي بالفرض والقوّة. وثورتان حاول هذا الحاكم “إسكاتهما” بطريقة واحدة: الضرب والسحل… والقتل.

في بغداد كانت اغتيالات الناشطين بدل السياسيّين. في بيروت اغتيالات متفرّقة و”خفيفٌ” نجمها. لكن تبيّن أنّ قتل الناشطين لم يردع الناخبين في العراق. فتمّ الانتقال سريعاً إلى قتل السياسيّين. رئيس الحكومة دفعة واحدة. المصيبة أنّ الفشل بدا عميماً: فشل انتخابيّ في صناديق الاقتراع، وفشل أمنيّ في قتل رئيس الوزراء.

تبدو بيروت “شقيقة بغداد” في التمرّد على الحاكم الفعليّ في البلدين. عاصمتان من العواصم الأربع، التي فاخر الإيرانيون بإحكام القبضة عليها، تشهد أولاهما تمرّداً انتخابيّاً واضحاً، في عهد “الحوار الكاظميّ”، وتشهد الأخرى انهياراً ماليّاً على أعتاب الانتخابات النيابية

في بيروت ثمّة أنواع مشابهة من الفشل.

– فشل في فرض “الهيبة الأمنيّة”، من خلال “وهج السلاح”، على القضاء، في ملفّ تفجير مرفأ بيروت.

– فشل في الاقتصاد، بسبب الانهيار الماليّ والاقتصادي غير المسبوق منذ “التسوية” الرئاسيّة وإمساك إيران بالرئاسات الثلاث، بمجلس النواب في 2018، وبمجلس الوزراء منذ 2020.

– وفشل في السياسة، بسبب الانسحاب الخليجيّ المفاجىء من لبنان، والتصعيد الذي سيكون صعباً في السياسة والاقتصاد، مع دول تستورد 30% من صادرات لبنان، وتورِّد تقريباً نصف التحويلات بالدولار التي تدخل لبنان.

في العقد الأخير باتت لازمة الربط السياسي بين تشكيل الحكومة في بيروت وفي بغداد. في 2013 حاول تمّام سلام 11 شهراً، ووُلِدت حكومته في شباط 2014 بعد “تسوية” في المنطقة “ربطت النزاع” في بيروت، حاميةً ظهر حزب الله وهو يقاتل في سوريا، وبدأت زمن التحالف الأميركي الإيراني في العراق لمحاربة توسّع “داعش”، فوُلِدت حكومة حيدر العبادي في آب 2014.

ثمّ انتظر سعد الحريري 8 أشهر ليشكّل حكومته في نهاية كانون الثاني 2019، على الرغم من “التسوية الرئاسية” التي وعدته بالرئاسة طوال عهد ميشال عون (2016 – 2022). انتظر الحريري ولادة حكومة عادل عبد المهدي في تشرين الأوّل 2018، ثمّ صدر الضوء الأخضر الإقليمي.

مَن ربط بغداد ببيروت؟

بالطبع ليس الحريري ولا سلام. وبالطبع ليس العبادي ولا عبد المهدي. واليوم ليس نجيب ميقاتي ولا مصطفى الكاظمي. لكنّ ما يجمع الأخيرَيْن أنّ حكومتيْهما وُلِدتا في لحظة “حوار” كانت بغداد محورها. وتهتزّ الأرض تحت الرجلين في لحظة انقلاب الحوار إلى “مواجهة”.

ميقاتي يبدو “أسير” منزله في بيروت. لا ضرورة لطائراتٍ مسيّرة. فلا هو قادر على استقالة ترفضها فرنسا وأميركا وإيران، ولا هو قادر على “البقاء” عاريَ الظهر عربيّاً. وحده بيان دار الفتوى أعلن “دعمه”، ودعا إلى تفعيل العمل الحكومي، في إشارة إلى “غطاء سنّيّ داخلي” وفّره بالطبع الحريري، ووافق عليه الرئيس فؤاد السنيورة الذي زار المجلس الشرعي يوم السبت الفائت.

إقرأ أيضاً: “إعلام الحزب”: أميركا مسؤولة عن اغتيال الكاظمي

لكلّ هذه الأسباب، تبدو بيروت “شقيقة بغداد” في التمرّد على الحاكم الفعليّ في البلدين. عاصمتان من العواصم الأربع، التي فاخر الإيرانيون بإحكام القبضة عليها، تشهد أولاهما تمرّداً انتخابيّاً واضحاً، في عهد “الحوار الكاظميّ”، وتشهد الأخرى انهياراً ماليّاً على أعتاب الانتخابات النيابية، مع مخاوف من نتائج “عراقيّة” الهوى، بنكهة “التمرّد”.

لكلّ هذه الأسباب، تبدو محاولة اغتيال الكاظمي شأناً لبنانيّاً داخليّاً.

فإذا أمطرت حرباً في بغداد، علينا أن نحمل المظلّات الأمنيّة في بيروت.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…