المصارف تسرقكم مجدّداً… وبالدولار

منذ بداية الأزمة، عمدت المصارف إلى التمييز بين نوعين من أصحاب القروض المقوّمة بالدولار الأميركي: القروض التجاريّة وقروض المغتربين السكنيّة، التي فُرِض سداد دفعاتها بالدولار النقدي أو الشيكات المصرفيّة (اللولار). وقروض التجزئة التي تشمل القروض الشخصيّة والبطاقات المصرفيّة وقروض السيارات، التي سُمِح لأصحابها بالسداد بالليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم. أمّا القروض السكنيّة الممنوحة لمقيمين فتمّ التعامل معها باستنسابيّة، أي وفقاً للقواعد التي وضعها كلّ مصرف لنفسه ولكلّ مقترض بحسب وضعه الاقتصادي وعدد السندات المستحقّة وغير المدفوعة.

قرّرت المصارف أخيراً إصدار قرارات تقضي بفرض سداد جميع القروض الممنوحة بمختلف أشكالها بالدولار النقدي، أو بالشيكات المصرفيّة المدولرة، بحجّة أنّ مصرف لبنان لم يعُد يمنح المصارف الموافقة على إعطائها الدولارات في حساباتها لديه

وبعد أن يسدّد المقترض دفعته بالليرة وبسعر الصرف الرسمي، كان مصرف لبنان يسمح للمصرف بشراء كمّيّة موازية من الدولارات المحليّة (اللولار) بسعر الصرف الرسمي، وإضافتها إلى حسابه في المصرف المركزي. وبهذا الشكل، لم تكن المصارف تتكبّد أيّ خسارة نتيجة السماح بسداد القروض المدولرة بالليرة. فنتيجة العمليّة هي استبدال قيمة القرض الممنوح للعميل بالدولار بقيمة مماثلة تماماً من الدولارات المودعة لدى مصرف لبنان، والتي اشترتها المصارف بسعر الصرف الرسمي أيضاً. لا بل كانت المصارف تستفيد من هذه العمليّة بالتحديد للتخلّص من القروض المرتفعة المخاطر، والسماح بسدادها بسهولة، مقابل الحصول على سيولة في حساباتها لدى مصرف لبنان.

باتت اليوم كلّ هذه المعادلات من الماضي. فعلى حين غرّة، قرّرت المصارف أخيراً إصدار قرارات تقضي بفرض سداد جميع القروض الممنوحة بمختلف أشكالها بالدولار النقدي، أو بالشيكات المصرفيّة المدولرة، بحجّة أنّ مصرف لبنان لم يعُد يمنح المصارف الموافقة على إعطائها الدولارات في حساباتها لديه. وبنتيجة هذه الخطوة، تحرّكت مجدّداً عمليّات بيع الشيكات المصرفيّة في السوق السوداء، نتيجة إقبال المقترضين على شراء الدولارات المصرفيّة (اللولار) لسداد القروض.

تؤكّد مصادر مصرفيّة لـ”أساس” أنّ هذه الخطوة ستؤدّي إلى ارتفاع غير مسبوق في نسبة القروض المتعثّرة، خصوصاً أنّ الغالبيّة الساحقة من أصحاب قروض التجزئة، التي كانت تُسدَّد سابقاً بسعر الصرف الرسمي، هي من أصحاب الدخل المحدود الذين لم ترتفع أجورهم بالليرة بالتوازي مع التراجع في سعر صرف العملة المحليّة. لكنّ رهان المصارف سيكون على الضمانات الممنوحة مقابل بعض هذه القروض، وخصوصاً قروض السيّارات وبعض أنواع القروض السكنيّة التي كانت توافق المصارف على سدادها بالليرة.

وفي النتيجة، سيكون أمام المقترض خياران: إمّا بيع هذه الضمانات طوعاً مقابل شيكات مصرفيّة وسداد القرض الممنوح له، أو التعثّر وفتح الباب أمام بيع الضمانات في المزادات العلنيّة، مع كلّ ما يعنيه ذلك من انتقاص من قيمتها خلال عمليّة البيع. يُشار إلى أنّ وجود عدد كبير من المودعين الذين يرغبون باستخدام دولاراتهم المصرفيّة لشراء هذه الضمانات سيسمح للمصارف بالتخلّص من هذه الضمانات بشكل سريع، وبمجرّد عرضها للبيع. وهذه الحقيقة بالتحديد تذكِّر بنقاشات جمعيّة المصارف مع لجنة المال والموازنة خلال العام الماضي، التي أصرّت خلالها الجمعيّة على خفض نسبة القروض المتعثّرة المتوقّعة، على اعتبار أنّ وجود الضمانات سيسمح لها بتحصيل قيمة هذه القروض عبر بيع الضمانات.

سيكون أمام المقترض خياران: إمّا بيع هذه الضمانات طوعاً مقابل شيكات مصرفيّة وسداد القرض الممنوح له، أو التعثّر وفتح الباب أمام بيع الضمانات في المزادات العلنيّة، مع كلّ ما يعنيه ذلك من انتقاص من قيمتها خلال عمليّة البيع

لن يقتصر عنصر الإجحاف بحقّ المقترضين على مجزرة مصادرة الضمانات المتوقّعة خلال المرحلة المقبلة، ولا على الاقتصاص من نسبة كبيرة من مداخيلهم لسداد هذه القروض. إذ تكمن الإشكاليّة الأساسيّة في أنّ المصارف ومصرف لبنان لا يزالان يستفيدان من سعر الصرف الرسمي القديم للتصريح عن الالتزامات المتوجّبة عليهما، وهو ما يسمح لهما بإخفاء نسبة كبيرة من الخسائر التي تراكمت في الميزانيّات المصرفيّة. وفي المقابل، سيكون على أصحاب القروض من محدودي الدخل التعامل مع ديونهم المتوجّبة لمصلحة النظام المصرفي بحسب عملة الديون الفعليّة، ومن دون أيّ اعتبار لسعر الصرف الرسمي الذي يعترف به ويستفيد منه النظام المصرفي اللبناني.

وبالتوازي مع هذا الإجراء، اتّخذت المصارف إجراءات مجحفة أخرى بحقّ عملائها، من قبيل عدم الموافقة على إصدار أيّ كشف حساب مصرفي إلا بعد التوقيع على مستندات يتعهّد بموجبها العميل بعدم طلب أيّ سحوبات نقديّة بالعملات الأجنبيّة من المصرف، وبعدم إجراء أيّ تحويل نقدي إلى الخارج. وبذلك تكون المصارف قد ربطت بين حقّ العميل البديهي بالحصول على كشف الحساب، وتنازله عن حقّه بالاستفادة من وديعته، وبتسليمه بجميع القيود التي فرضتها المصارف بعد تشرين الأوّل 2019 من خارج أيّ تشريع أو قانون صادر عن المجلس النيابي. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا النوع من التعهّدات يتناقض حتّى مع بعض تعاميم مصرف لبنان كالتعميم 158، الذي يقضي بالسماح ببعض السحوبات النقديّة بالعملة الأجنبيّة وفق سقوف معيّنة.

الغائب الأبرز عن الساحة هو مصرف لبنان، الذي لم يتدخّل حتّى اللحظة في قرارات فرض سداد القروض بالدولار، على الرغم من أنّ هذا الإجراء يتعارض مع تعميم مصرف لبنان الوسيط رقم 568 الصادر في 26/08/2020، والذي يفرض على المصارف قبول دفعات قروض التجزئة بالليرة وبسعر الصرف الرسمي. ولم يتدخّل أيضاً في المستندات التي بدأت المصارف بفرض توقيعها مقابل الحصول على كشوفات الحساب، على الرغم من تعارض ذلك مع التعميم 158.

إقرأ أيضاً: الإفلاس السرّيّ: سلامة أخفى ورطته منذ 2011؟

فبحسب قانون النقد والتسليف، يُفترض أن تكون لجنة الرقابة على المصارف هي اللجنة المخوّلة متابعة هذا النوع من التجاوزات، في حين أنّ الهيئة المصرفيّة العليا هي الجهة التي تتّخذ الإجراءات العقابيّة بحقّ المصارف المخالفة، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو نفسه من يرأس هذه الهيئة بحسب القانون. حتّى اللحظة، لم تبادر لجنة الرقابة إلى إعداد أيّ تقرير أو متابعة لهذه المخالفات، ولم تتّخذ الهيئة المصرفيّة العليا أيّ إجراء بحقّ المصارف المعنيّة. ولهذا السبب بالتحديد، ثمّة مَن يعتبر اليوم أنّ جميع هذه القرارات جاءت بغطاء ضمنيّ من حاكميّة مصرف لبنان، على الرغم من عدم صدور أيّ تعميم رسمي ينظّم أو يشرّع هذه القرارات.

إقرأ أيضاً

السلطة V/S المصارف: الأزمة بحاجة لـ”عقل محايد” يحسم خلافاً

يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا…

مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ

كثرت في هذه الأيام الرسائل الموجّهة إلى صندوق النقد الدولي من قبل جهات عديدة من المجتمع اللبناني في محاولة لإرشاده إلى كيفية مقاربة حلّ “للمصيبة…

عمولة 8 مليار$: إلى متى سيبقى مصرف لبنان صامتاً؟

أثير ضجيج كثير حول تقرير التدقيق الجنائي في حسابات شركة “أوبتيموم” المتعاونة مع مصرف لبنان. لكنّ الأخير لا يزال صامتاً حتى اللحظة. على الرغم من…

كفى ثرثرة.. إنصرفوا إلى معالجة الأزمة

كفى ثرثرة. . . الكلّ يدّعي المعرفة وامتلاك المعلومات التي تسمح له بتصنيف الناس بين فاسد وغير فاسد، ويرمي بالأرقام والأسماء التي  تُربك وتشوش على…