تفكيك ألغاز قمّة إردوغان – بايدن؟

سُئل الرئيس الأميركي جو بايدن قبل لقائه نظيره التركي رجب طيّب إردوغان عن إمكان تفكيره في الاستجابة لطلب أنقرة شراء مجموعة جديدة من المقاتلات الأميركية من طراز إف-16، فردّ مختصراً الكثير من الأمور: “أنا أفكّر الآن في شيء واحد، وهو عقد لقاء إيجابيّ ومثمر”. إذا ما كانت الأولويّة هي للحوار والتفاهم، وتجاوز ملفّات الخلاف والتصعيد بين البلدين، فلماذا اختار بايدن توجيه تحيّة عسكريّة لنظيره التركي عندما التقت الأنظار عن بعد؟

يتحدّث الإعلام التركي عن ليونة وتعاون أميركيَّيْن بعدما قرّر إردوغان عدم التوجّه إلى قمّة المناخ في غلاسكو الاسكتلنديّة نتيجة “فراغ أمنيّ” اكتشفه الوفد التركي في الاستعدادات البروتوكوليّة، وعن تعاون وتفهّم أميركيَّيْن نتيجة قبول بايدن الاقتراح التركي بتقريب موعد القمّة وعقدها في روما بدلاً من غلاسكو، كما كان مقرّراً. وأتت الخطوة التفاؤليّة الثانية مع قرار تمديد مدّة اللقاء لسبعين دقيقة كاملة بدلاً من 25 دقيقة كانت مخصّصة رسميّاً للاجتماع.

يبقى الرابح الأول من التوتّر التركي الأميركي هو روسيا مرّة أخرى، لأنّ أنقرة وواشنطن قد يعطيانها الكثير ممّا تريده ما داما عاجزين عن إيجاد مخرج مناسب لخلافاتهما الكثيرة

لا أحد من الجانبين يريد أن تتحوّل رياح التوتّر إلى عواصف وأعاصير. وصدر عن الطرفين كلامٌ بعد انتهاء القمّة عن إيجابيّة النتائج وضرورة تفعيل الحوار بهدف إعادة الأمور إلى سابق عهدها. فمَن إذاّ الذي حال ويحول إذاً دون ذلك حتى اليوم؟

لن يكون رمْيُ الكرة في الملعب الروسي مقنعاً أبداً.

قد تُفسَّر المواقف والتصريحات التركية الأميركية بعد لقاء القمّة الأخير بين الرئيسين إردوغان وبايدن على أنّها تنازلات متبادلة نحو التهدئة ومحاولة فتح صفحة جديدة من العلاقات، لكنّ “تمريرة” تشكيل آليّة عمل مشتركة لبحث ملفّات الخلاف لا تكفي طبعاً، فنحن سمعناها قبل عامين على هامش قمّة مشابهة بين إردوغان ودونالد ترامب من دون نتيجة وقتذاك. المهمّ في مسار العلاقات التركية الأميركية ليس وضع الإصبع على الجرح وتحديد سبل المعالجة لأنّ الأمور كلّها باتت مكشوفة وواضحة، بل عدم وجود الرغبة ببحث سبل التداوي وفرصه وإنهاء التوتّر حتى الآن.

فهل كان الوقت في روما كافياً للمصارحة وتجاوز تصريحات بايدن عندما كان مرشّحاً للرئاسة ووعوده بدعم المعارضة التركيّة لإسقاط حكومة العدالة والتنمية، وهي إحدى أهمّ العقبات في مسار العلاقات بين البلدين؟

أزمة الإف-35

هل يكفي أن نسمع تفاؤل إردوغان وبايدن بنتائج إيجابيّة ورغبة بتحسين العلاقات وتمتينها، في حين تُصعِّد المؤسّسات الأميركية ضدّ أنقرة في العديد من الملفّات، كان آخرها التشدّد في عرقلة طلب أنقرة شراء مجموعة من المقاتلات الأميركية من طراز إف-16، وفيما استطلاعات رأي تركيّة تصرّ على أنّ غالبيّة الأتراك لا تثق بأميركا وسياستها التركيّة؟

كيف تحتكر أميركا قرار 8 دول أخرى تشارك في برنامج المقاتلة إف-35، وتقرّر وحدها طريقة مواجهة الخطوة التركيّة بشراء منظومة الصواريخ الروسيّة إس-400؟ ولماذا بقيت واشنطن صامتة وفي وضع المتفرّج عندما كانت الهند شريكها المفترض أيضاً ودول أوروبيّة تشتري منظومة الصواريخ الروسيّة، فيما تمارس الآن كلّ عمليّات التصعيد والضغط على أنقرة؟ ,هل يُعتبَر العرض التركيّ الجديد بشراء مقاتلات إف-16 تجاوزاً لأزمة إف-35 ومنظومة الصواريخ الروسية إس-400؟ وهل يجد بايدن مخرجاً لقبول هذا الحلّ، وإقناع الكونغرس والبنتاغون به لأنّه قادر على فعل ذلك كما قال إردوغان؟

تنتقد القيادات التركيّة يوميّاً الغرب ومواقفه وسياساته حيالها، لكنّها تردّد أيضاً أنّها متمسّكة بموقعها ودورها داخل مؤسّساته، وليست ذاهبة إلى مكان آخر. فهل يكون ذلك مقنعاً لبايدن وفريق عمله بعدما برّأت أنقرة أخيراً واشنطن من أزمة السفراء في حادثة عثمان كفالا، ورمت الكرة في ملعب الدبلوماسيّين المبتدئين في العواصم الاسكندينافيّة؟

إذا ما أخذنا بمضمون التصريحات والبيانات المعلنة تركيّاً وأميركيّاً في أعقاب لقاء القمّة بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره التركيّ رجب طيّب إردوغان، على هامش قمّة العشرين في روما، والتي أفادت أنّ اللقاء جرى في أجواء إيجابيّة وسط تأكيد الجانبين إرادتهما المشتركة لتعزيز وتطوير العلاقات الثنائيّة بين البلدين، وبحث سبل زيادة حجم التبادل التجاري، والتشديد على أهميّة علاقة التعاون تحت المظلّة الأطلسية، فلماذا كان مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، يعلن قبل القمّة بساعات، ردّاً على سؤال، موقف بلاده من طلب تركيا شراء 40 طائرة من نوع إف-16، إضافة إلى تحديث 80 مقاتلة أميركية الصنع يستخدمها سلاح الجوّ التركيّ، إذ قال: “كما تعرفون لم تعُد تركيا ضمن برنامج إف-35، أمّا بالنسبة إلى طائرات إف-16، فهناك عمليّة يتمّ تطبيقها منذ فترة طويلة لكيفيّة شراء الدول للطائرات الحربيّة، وتركيا حاليّاً ضمن هذه العمليّة المستمرّة، وليس لديّ ما أضيفه الآن في هذه القضيّة”.

فهل تقبل أنقرة إخراجها بهذه الطريقة من برنامج المقاتلة إف-35، فيما يتحدّث إردوغان عن استرداد تركيا حصّتها من الأموال التي أنفقتها في تمويل المشروع، ثمّ تقترح أنقرة بيعها مقاتلات من الجيل الرابع بدلاً من الجيل الخامس لتسوية الخلاف مع واشنطن؟ ولماذا تفعل ذلك؟

الأزمة هي أزمة ثقة ونوايا وخيارات متباعدة ومتضاربة. تقول أنقرة إنّ سياسات واشنطن الأخيرة تُعرِّض أمنها القوميّ في سوريا وشرق المتوسّط وإيجه والبحر الأسود والقوقاز للخطر، في وقت تتمسّك الإدارة الأميركية بمطلب عودة أنقرة إلى بيت الطاعة الأميركي في المنطقة، وإنهاء كلّ أنواع التعاون والتنسيق مع روسيا إلا عبر المؤسّسات الغربيّة والأوروبيّة، وأن يكون النقاش التركيّ مع موسكو في الملفّات الثنائيّة والإقليمية بمعرفتها وموافقتها، وهو ما ترفضه تركيا وتقاومه.

استمرّ اللقاء التركي الأميركي لمدّة سبعين دقيقة. فسّر البعض في تركيا ذلك على أنّه نقاش تحوّل من العموميّات والشكليّات إلى بحث المسائل في العمق وسبل معالجتها. هناك مَن يريد أن يكون متفائلاً بنتائج القمّة التركية الأميركية الأخيرة في روما لأنّه يحتاج إلى مثل هذه الأجواء والانطباعات.

فأين وكيف التقت احتمالات حدوث تفاهمات إقليمية تركية أميركية جديدة تساهم في تبديد التوتّر وتفاقمه؟

تسوية روسية – أميركية؟

كانت عمليّة الشدّ والجذب بين إردوغان وبايدن صعبة جدّاً من دون شكّ. وهي أبعد من الاكتفاء بخطّة “خذ وهات” في الملعب، إذ تحتاج إلى تمريرات طويلة في ساحة لعب ضيّقة. السيناريو، الذي لم نعرف الكثير عن تفاصيله بعد، قد يكون عرضاً تركيّاً جديداً لتسوية تشمل أكثر من مادّة وتجمع أكثر من طرف. يُحتمَل أن تكون أنقرة قد عرضت على واشنطن إعادة تفعيل دورها في مشروع منظومة صواريخ يورو سام “سامب – تي” الفرنسية الإيطالية، وأن يكون هذا السيناريو نوقش في روما بين إردوغان من جهة، وماكرون ودراغي من جهة أخرى، بمعرفة وقبول بايدن، وذلك في إطار صفقة تسويات جديدة تكون مقدّمة لمسار تفاهمات أوسع بين الأطراف.

فهل اقترحت أنقرة شراء الباتريوت و”سامب – تي” والحصول على مقاتلات أميركية من طراز إف-16، مقابل الاحتفاظ بمنظومة الصواريخ الروسية في المخازن التركية؟ هل تكون هذه الصفقة الاستراتيجيّة الجديدة على رأس جدول أعمال آليّة العمل التركية الأميركية المشتركة التي تمّ الاتفاق على تشكيلها؟

كرّر إردوغان أكثر من مرّة حديثه عن التهديدات، التي تشكِّلها مجموعات “قسد” في شرق الفرات، المدعومة أميركيّاً، على الأمن القومي التركي. لا يتوقّف إردوغان عن الإشارة إلى عمليّة عسكرية مرتقبة ضدّ هذه المجموعات التي تريد أن تكون في خندق واحد مع قوات النظام السوري والحشد الشعبي والميليشيات الإيرانية الداعمة للأسد. هل هناك طرح تركيّ على بايدن لدعم هذه العمليّة من أجل إحراق أكثر من ورقة محليّة وإقليمية في سوريا، الأمر الذي يفتح الطريق أمام العودة إلى سيناريو تركيّ قديم يقوم على ترتيب طاولة حوار ثلاثية أميركية روسية تركية لوضع مسار جديد نحو مرحلة انتقالية في سوريا بعيداً عن كلّ المنصّات والقرارات الأمميّة والدولية التي ظلّت حبراً على ورق؟

تعدّ أنقرة منذ أشهر لهذه العمليّة العسكرية التركيّة ضدّ مجموعات “قسد”، وسيساعدنا الموقف الأميركي منها على التأكّد من احتمال مناقشة عرض تركيّ من هذا النوع سبق أن ناقشه الرئيس التركي مع نظيره الروسي في لقائهما الأخير، وحصل منه على ضوء أخضر مشروط بخطّة توافقات ثلاثيّة في سوريا.

كانت هدية أنقرة لبايدن قبل أيّام قصف المسيَّرات التركية المقدّمة إلى أوكرانيا للقوّات المحسوبة على روسيا في المناطق المتنازع عليها، وإعلان تركيا أنها تبيع المسيَّرات لِمَن يدفع ثمنها، وهي ليست مسؤولة عن مكان وطريقة استخدام أسلحتها من قبل الشاري. هل تسعد هذه الخطوة البيت الأبيض، وتدفع القيادة الأميركية إلى مراجعة ملفّات العلاقات المتوتّرة مع أنقرة؟

إقرأ أيضاً: تركيا: عثمان كفالا.. لماذا كلّ هذا الضجيج؟

سيمضي بعض الوقت قبل أن نكتشف كيف ستتصرّف إدارة بايدن. هناك مَن يردّد في البيت الأبيض أنّ محاولة أنقرة لعب الورقة الروسيّة في حوارها مع الإدارة الأميركية لم تعُد تنفع كثيراً لأنّ واشنطن وجدت بدائل وخيارات سياسية وعسكرية بدأت تحرِّكها على رقعة الشطرنج الإقليمية. هي لا تريد التفريط بورقة مجموعات “قسد” في سوريا، وزادت من عدد القواعد العسكرية التي تجهّزها بالتنسيق مع اليونان والقبارصة اليونان في المتوسّط وإيجه. ورفعت من مستوى التنسيق مع دول حوض البحر الأسود لقلب التوازنات الروسية التركية هناك.

يبقى الرابح الأول من التوتّر التركي الأميركي هو روسيا مرّة أخرى، لأنّ أنقرة وواشنطن قد يعطيانها الكثير ممّا تريده ما داما عاجزين عن إيجاد مخرج مناسب لخلافاتهما الكثيرة.

*أكاديميّ وكاتب تركيّ، والعميد المؤسّس لكلّية القانون في جامعة غازي عنتاب، وأستاذ مادّتيْ القانون الدوليّ العامّ والعلاقات الدوليّة.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…